الاثنين، أكتوبر 31، 2011

رفيف فراشة.. انطلاق إعصار


فََرَاشَةَ رَعْـدٍ 
تَحُطُّ علَى وَجَعِ الْيَاسَمِينِ
صَهِِيلاً مِنَ الانْتِظَارِ
ظَلَّتْ تُهَرِّبُ نَجْمَ الأَغَانِي
وتحْمِلُ لِلْحُلْمِ لَفْحًا
ولِلمَيِّتِينَ شَظَايَا الأَمَانِي
للشاعر التونسي محمد علي الهاني
أبريل ٢٠٠٨




قسّم الغرب تاريخه لما قبل وما بعد مولد النّجّار المصلوب, ونحن نقسم تاريخنا لما قبل موت بائع الخضار المحترق وما بعده. لهذا نحن لمّا نكمل العام من عمرنا الجديد. رضّعٌ بعدنا, أحمرٌ حليبنا المراق في المدن ... 
الياسمين, هدية الله كما كان يسميه الفرس, ينثره الهنود أثناء العبادة. تتساقط أوراقه في الخريف, تتفتح زهراته بعد الغروب مع انخفاض الحرارة فيضوع شذاه في الفضاء. التونسيون يسقطون أوراق التصويت في صناديق بلاستيكية تشفّ ما بداخلها في مراكز الاقتراع في أول انتخابات من روزنامتنا البوعزيزية.
أريج الياسمين يُسكرنا بعد ألف عام في وحل الطغيان.
شيئ ما بين الفراشة والإنسان: تحكي مسرحية كوريّة قصة محبين ماتا وتحوّلا بعد موتهما إلى فراشتين. الحكاية تختزل مآسي الحب التي تبدأ بين البشر لكنها تنتهي في عالم الحشرات. من ذلك العالم المزدحم بكل ما هو مخيف يولد كائن باهر الجمال بألوان وأشكال لا نهاية لتنوّعها. يطير أرشق من عصفور بين الأزهار برقة تعجز عن محاكاتها راقصات الباليه. كأن الفراشة تحتفل بحياتها القصيرة على هذه الأرض بعد طول همود في حبس الشرنقة. في نص قديم لشاعر مصري سوري قديم (ترجمة للمخرج السينمائي المصري محمد حسان):
الروح التي تحوم حولك كالفراشة
ستهرب منك
لأنها أيضاً،
ماكرة
و لها جناحان
ما حكاية النار؟ البوعزيزي يحرق نفسه مثل يعسوب نار فقد صوابه أمام اللهب. 
نيران القاهرة تمتد من أسابيع ثورتها الأولى وحتى أسابيع الخريف الأخيرة حين تساقط الأقباط قتلى. 
علي عبدالله صالح المحترق إثر محاولة اغتيال يتعالج من حروقه في السعودية ويعود ليشعل اليمن حرائق..
ما حكاية النار؟ ينذر بشار الأسد هذا الأسبوع: أي تدخل ضد دمشق سيحرق المنطقة بأسرها.
لا يفهم الرئيسان روزنامة البوعزيزي. لا يعقلان أثر الفراشة.
 أشار الكاتب تشارلز فورت في كتابه أراضي جديدة (١٩٢٣) إلى أن هجرة الطيور في نيويورك يمكن أن تتسبب بعاصفة في الصين. برغم أن فورت كان كاتباً مختصاً في الشؤون العلمية إلا أن بعض كتاباته واجه التشكك والرفض, وكان ربطه بين طيور نيويورك وعاصفة الصين مما رفض على نطاق واسع لأن المعرفة العلمية في ذلك الزمن لم تملك براهين لإثباته.
في ١٩٥٢ نشرت قصة قصيرة بعنوان (صوت الرعد). صوّر المؤلف راي برادبري فيها كيف يؤدي موت فراشة إلى تغيير الانتخابات الأمريكية, وتعديل حروف اللغة. حتى الروائح والأصوات في الفضاء اختلفت: "إن دهس قدمك لفأر يمكن أن يبدأ زلزالاً, آثاره قادرة على زعزعة الأرض...من عمق أساساتها.
الحكاية رائعة من روائع الأدب, وليس الخيال العلمي فقط. في قالب بسيط ابتكر الكاتب رؤية فريدة لترابط الأشياء؛ للتاريخ وللطبيعة ولحال البشر. استقبلت الأوساط الأدبية القصة باحتفاء مستحق, لكن لم يخطر للمحتفين أن الحكاية شيء أكثر من مبالغة أدبية.
بيد أن العالم كان يستعد لاستقبال معجزة توراتية؛ الأديب كنبيّ يخترق الحجب ويستشعر حقائق الأشياء قبل العالم والحاسب والمجرّب والطبيب. بعد نشر الحكاية بعقدين ألقى العالم إدوارد لورنز قنبلة؛ محاضرة بعنوان مدهش: هل يطلق رفيف أجنحة فراشة في البرازيل إعصاراً في تكساس؟. وقد بيّن لورنز معقولية الفرضية ضمن نظرية في علم المناخ أطلق عليها إسم "أثر الفراشة". رصدت النظرية امتلاك أصغر الأشياء تأثيرات لا تتناسب مع ضآلتها. لا يقوم أساس النظرية على وجود سحر يمارسه كائن صغير على ما هو أكبر منه بل على حقيقة ارتباط الأشياء والكائنات بداخل الطبيعة ومن التصادف في قيام الظواهر ومن الطفرات التي تحدث ضمن الزمن وعبر حشد من الحالات الكثيرة. لم تنحصر نظرية  "أثر الفراشة" في علم المناخ بل امتدت الأبحاث فيها وتشعبت لعلوم أخرى كالفلك وفيزياء الكم.
بعد العلم يعود الأدب ليغلق القوس ويكمل الجملة. شاعرنا الراحل محمود درويش في واحدة من آخر قصائده بعنوان لا يفاجئ:" أثر الفراشة":
أَثر الفراشة لا يُرَى
أَثر الفراشة لا يزولُ
هو جاذبيّةُ غامضٍ
يستدرج المعنى، ويرحلُ
حين يتَّضحُ السبيلُ
هو خفَّةُ الأبديِّ في اليوميّ
أشواقٌ إلى أَعلى
وإشراقٌ جميلُ
هو شامَةٌ في الضوء تومئ
حين يرشدنا الى الكلماتِ
باطننا الدليلُ
هو مثل أُغنية تحاولُ
أن تقول، وتكتفي
بالاقتباس من الظلالِ
ولا تقولُ...
فراشات عديدة كانت تحوم في الأسبوع الماضي في حدائق تونس وعلى أغصان ياسمينها. لو كنا صينيين، لاستشعرنا من بين هذه الفراشات روح ملهم الربيع العربي ترفرف وتطير تحتفل بألف عام من الحرية.. وألف إعصار مقبل.


رابط قصة صوت الرعد لراي برادبري:
http://www.lasalle.edu/~didio/courses/hon462/hon462_assets/sound_of_thunder.htm

هناك تعليق واحد:

  1. رائع جدا النص وكأنه ليس مقالا بل شعرا
    محبتي سيدي
    وكأن التعميد بالنار أوقع وينقي النفس البشرية
    وشكرا للتنويه الكريم
    محمد حسان

    ردحذف

العارض المكسيكي في الخليج العربي

”المكسيك بائسة, فهي بعيدة عن الله وقريبة من الولايات المتحدة“. هكذا لخص رئيس المكسيك بورفيريو دياز موري (١٨٣٠-١٩١٥) علاق...