مقابلات


مقابلة مع تلفزيون العربية, برنامج إضاءات
دبي-العربية.نت
قال الكاتب والصحفي الإماراتي محمد عبيد غباش إن إيران صارت تشكل تهديدا على دول الخليج العربي بعد فقدان الأمل بنظامها القادم على أنقاض نظام الشاه. كما دعا غباش لمواجهة حضارية مع إسرائيل عبر العلم وإقامة التحالفات الدولية. وغباش، الذي كان ذا ميول إخوانية قبل أن يعتنق التوجه القومي، يرى أن الحركات الإسلامية يجب أن تنبذ العنف وتتصالح مع الديمقراطية.
وأكد غباش لبرنامج “إضاءات”، الذي تبثه قناة “العربية” الساعة 19:05 بتوقيت غرينتش (10:05 بتوقيت السعودية) مساء الأربعاء من تقديم الزميل تركي الدخيل، أن إيران أثلجت صدورنا عندما جاء نظام الخميني وحاول فتح جسور مع الآخرين “لكن الآن غيرت وجهة نظري بالذات مع المشروع النووي حيث تحولت إيران إلى دولة تسعى وراء مصالحها التي تتعارض مع مصالح دول الخليج وصارت تشكل تهديدا للمنطقة”.
انهيار الفكر القومي القديم
ولم ينف غباش تأثره بالإخوان في الستينات، موضحا أن الفكر الإخواني “كان بديلا بعد النكسة ولكن بعد الثورة الفلسطينية أصبحت قوميا، وفكر الإخوان يضيّق العصبية القومية.. ولكن كل هذا الفكر لا تزال له بقايا بداخلي”.
وتابع “الفكر القومي القديم انهار وهو الفكر الذي طرحه البعثيون والناصريون إلا أن رابطة القومية بقيت.. وسقط المشروع العربي ولم ينته الحلم العربي ولكن النموذج الذي كان قائما على أفكار استبدادية سقط”. والكاتب غباش، الذي كان في النهاية قومي الميول، لم يؤمن أبدا “أن صدام كان حارس البوابة الشرقية”، “وهذا سبب لنا مشكلة عندما تم اتهامنا بأننا عملاء لإيران”- حسب كلامه لـ”إضاءات”.
الإسلاميون والتخلي عن العنف
ودعا غباش، في حواره مع برنامج “إضاءات”، الحركات الإسلامية للتخلي للعنف والتصالح مع الديمقراطية، مشيرا في الوقت ذاته إلى أن السلام هو الحل الوحيد للقضية الفلسطينية. وقال: “يجب أن ندخل في صراع حضاري مع النموذج الإسرائيلي.. هم متفوقون علينا بعلمهم وتحالفاتهم القوية في العالم ونحن ضعفاء في العلم والتحالفات وأنا لا أصادر حق أحد بأن يمارس حقه بالنضال الذي يراه ولكن لو كنت في فلسطين لن ألجأ إلى العنف”.
على صعيد آخر، وحول الأسباب التي وقفت وراء إغلاق مجلة “الأزمنة العربية” التي أطلقها في بداية سبعينيات القرن الماضي، أوضح الدكتور محمد عبيد غباش أن وزارة الإعلام الإماراتية هي التي وقفت وراء إغلاق المجلة آنذاك لأن “نبرة المجلة في معالجة القضايا العامة كان أعلى مما يجب”.
وتابع “وزارة الإعلام حاولت جعل المجلة مثل المطبوعات الحكومية حتى صدر أمر إداري بإغلاقها خارج القانون، والمشكلة كانت فيما تنشره المجلة حول القضايا الداخلية مثل التجربة الاتحادية”. وعن فترة عملها في الخارج وإغلاقها رغم البعد عن سلطة وزارة الإعلام هناك، أرجع غباش ذلك إلى “غياب الجدوى فالعمل موجه لبلدك ولا تستطيع التوزيع فيه ولم نكن نصل للمواطن وبقيت المجلة عربية أكثر منها إماراتية”.
وفي شأن آخر، انتقد الكاتب الإماراتي محمد غباش في حديثه لبرنامج “إضاءات” العمالة الرخيصة في دول الخليج العربي، وقال “يجب أن نعبئ قوانا لأنه توجد نسب بطالة غير مقبولة، وأنا ضد طرد المواطنين الخليجيين عن مواقع العمل ويجب أن تكون الأولوية في فرص العمل للخليجيين وإذا كان تأهيله ضعيفا يجب تدريبه. والمطلوب أن تذهب سوق العمل للمواطنين”.
وأعرب غباش عن إعجابه بتجربة دبي في مجال الاستثمار حيث أشار إلى أن دول الخليج أنشأت صناديق استثمار في الغرب فيما أقدمت دبي على جذب أموال الاستثمار إليها، إلا أنه أيضا لفت إلى بعض النتائج الناجمة عما سماها “فورة دبي” مثل الغلاء المفرط الذي ازداد في السنوات الأخيرة والزحام غير المعقول.


مقابلة مع صحيفة البيان
د. محمد غباش: الروائيون العرب هواة.. وممنوعون من الاحتراف
حوار: محمود جمال الدين
د. محمد عبيد غباش.. سيسجل التاريخ الأدبي يوماً ما انه أول من كتب رواية مسلسلة ونشرها في الإمارات، حدث هذا مع روايته »يحدث في الليل« التي نشرها منذ سنوات مسلسلة في مجلة »الأزمنة العربية«، ومنذ هذا التاريخ والرواية هاجس أساسي له، اذ ان روايته الثانية »مزون« تنشر حاليا على حلقات.
الحوار مع د. محمد غباش تناول هموم وقضايا الرواية اماراتياً وخليجياً وبشكل عام. * من بين جميع الاجناس الأدبية ما هو سر اهتمامكم الطويل بالرواية تحديداً؟
- جنس الرواية جنس حديث إلى حد ما، صحيح ان له جذوره القديمة عندنا كما نرى في »ألف ليلة وليلة« مثلاً، لكن الرواية مرتبطة بالحداثة وبعصر الحداثة وازدهارها الكبير عمره حوالى مئتي سنة، واهم عناصر قوتها انها كيان يتيح للكاتب هامشاً واسعاً للحركة، ولذلك نجد الصنف الروائي يحتمل القصة البوليسية الساذجة التي تدور حول من قتل من؟ على طريقة قصص شارلوك هولمز واجاثا كريستي ويحتمل الرواية الفلسفية التي نشهدها عند ديستوفسكي مثلاً، حتى أسلوب الكتابة يحتمل المعالجة الشعرية التي نجدها بحيث تتهاوى الفوارق بين الرواية والشعر كما نجدها عند انطوان دي سانت اكسيبوري أو حتى عند بروست، والرواية التقليدية لتوماس مان مثلاً التي فيها نوع من الكلاسيكية في العرض، فهى من هذا الجانب جنس فني يتيح مجالاً واسعاً للحركة للكاتب الروائي، وعملياً تمتعت الرواية في الخمسين سنة الأخيرة بجانب مرتبط بالفنون الحديثة مثل السينما والتلفزيون اللذين يقومان على قصة شبه روائية، فأصبح هذا الفن أكثر جماهيرية من فنون مثل المسرح الذي ينحدر من تراث انساني عريق بدءاً من العهد اليوناني القديم وحتى الآن، لذلك فالرواية فن حديث ويحتمل التصدي للمشكلات والمسائل والقضايا التي تواجه الإنسان الحديث.
الرواية والمسرح * يعني انك ترى تقريباً انه اذا كان المسرح ابا للفنون، فالرواية ام الفنون؟
- انا لا اقول ان الرواية ام أو أب انا اقول ان الرواية رداء يناسب العصر الحديث، بينما المسرح هدفه وغرضه مختلف، ولا يزال له دور يلعبه، لكن الرواية اصبحت تنطلق إلى آفاق ما كانت لتنطلق لها فنون اخرى، وهناك فتنة في الفن الروائي، لانه يحقق نوعاً منه التصعيد النفسي الذي اشار اليه ارسطو في معرض من تحليله للمسرح، باختصار انا ارى في الرواية فناً يمنح المرونة العالية لكاتبه، ونحن نشاهد في الثلاثين سنة الماضية ان الرواية وظفت حتى في اغراض لا علاقة لها بالادب، مثلاً في اغراض تيسير تناول مادة جافة، فكثيراً ما كانت تكتب في قالب قصص لان قالب الرواية فيه مرونة وجاذبية عالية.
اغراء الحرية * ربما كان سقوط الحواجز بين الاجناس الأدبية واستثمار الرواية لهذا هو ما اغراك بالاهتمام بالرواية اكثر من غيرها مما يجعل مساحة الحرية المتاحة في الرواية اكثر مما هو في غيرها من الاجناس الادبية الاخرى؟
- مساحة الحرية في الرواية بالفعل مغرية، لكني لا ارى في الرواية سقوطاً للحدود الفاصلة بين الاجناس الأدبية، فأنا اجد ان جنس الرواية له كيان مستقل، ويسمح بنوع من التوليف، فأنا مثلاً لا اجد ان الرواية الشعرية هي شعر، ربما كان الاصح انها تستعين في داخلها بروح الشعر، وهكذا.
* كيف تسجلت لك الريادة في كتابة أول عمل روائي في الإمارات، معروف ان رواية »شاهندة« لمعالي راشد عبدالله رواية نشرت وطبعت في مصر، الريادة في الرواية المنشورة في الإمارات يسجلها البعض لك.
- لا ازعم هذا لنفسي انا كتبت عملاً ونشرته مسلسلاً في مجلة، ولم ينشر في كتاب، ولا زلت اجاهد مجاهدة شديدة في اعادة صياغته ادبيا، ربما يكون في هذا وجه حق، وربما لان قصة »شاهندة« تدور أحداثها خارج الإمارات، وبالتالي فان البيئة الاماراتية غير موجودة فيها.
بلدنا ميال إلى الشعر * كيف كان واقع الامارات الأدبي عندما بدأت كتابة هذه الرواية؟
- البلد يميل إلى الشعر، وفيه نتاجات شعرية مهمة سواء في الشعر النبطي أو في الشعر الفصيح، فالبلد تتذوق الشعر بشكل واسع النطاق أما الفن الروائي فلم يكن يلقى الاهتمام نفسه آنذاك.
كاتب القصة ليس روائياً * من المعتاد على الساحة الأدبية العربية ان الأديب يبدأ كتابة القصة القصيرة التي ربما تكون بالنسبة له تدريباً طويلاً قبل كتابة الرواية. كيف كتبت الرواية قبل أو بدون ان تكتب القصة القصيرة؟
- ليس من المؤكد ان من يكتب القصة القصيرة يتدرب على كتابة الرواية، كتابة القصة القصيرة تحتاج إلى التدريب على تقنية التكثيف في مساحة وزمن محدودين نسبياً لصورة أو شخصية أو موقف، بينما تقنيات الكتابة الروائية تعتمد على النقيض، تعتمد على امتداد واسع في الزمن، على كثرة الاشخاص وتفاعلاتهم مع بعضهم البعض، فأنا لا اجد في المسألة علاقة للفنين ببعضهما البعض، وبصراحة لم اشاهد قاصاً مهماً اصبح روائياً مهماً، ماركيز مثلاً يكتب القصة والرواية، ولديه هوة بين الاثنين لصالح الرواية لان ماركيز نفسه روائي، جراهام جرين يكتب الاثنين وهناك فارق ضخم بين جرين كروائي وجرين كقاص، جي دي موباسان كتب الرواية لكن قصصه القصيرة أفضل فرواياته غير مهمة.
* ما هي الاسئلة الفنية والابداعية التي واجهتها في البداية وانت تخط الصفحات الأولى في عمل ريادي؟ - بصراحة في البداية كان العمل نوعاً من الخواطر، لم يكن متبلوراً في ذهني كرواية، كان نوعاً من الخواطر المقالية، والتي بسبب السجالية التي فيها اقتضى الأمران توضع بين شخصيات متصارعة، فجأة اخذ العمل كينونة خاصة بذاتها بحيث كنت مجرد اداة تنفيذ، لكن لم يكن هناك تخطيط مسبق لعمل روائي، وفي وسط العمل اكتشفت ان المادة بدأت تطول مما اثار الرعب عندي، واحتاج الأمر للسيطرة على العمل بحيث لا تفلت المحاور من اليد.
* هل كنت آنذاك مشغولاً بهاجس التجريب كروائي رائد؟ - انا في تأسيسي الفني محافظ، لست تجريبياً، وانفر من التجريبية، وانا محافظ بمعنى انني اؤمن بالقيود من الكتابة، واتقبل التجريب ممن تخرج اولاً من المدرسة الكلاسيكية، اما كاتب شاب يبدأ بالتجريب، هذا أنا على أي حال لا املكه، وفي تجربتي حاولت ان اراعي الاصول التقليدية للفن الروائي.
* لماذا توقفت بعد عمل روائي واحد؟ - لان احترامي للتقنية منعني، فبعد نشري للعمل الروائي نفسه وقراءتي له وجدت فيه محاور مختلة فنياً، لم ينقدني أحد في هذا، بالعكس كان النقد الذي تناول الرواية ايجابياً، في هيكلية الرواية وكل جهدي من ذلك الوقت في محاولة اصلاح هذا المحور المكسور، ولذلك مازلت اعمل في هذه الرواية حتى الآن.
* يعني أنها لا تزال نصاً مفتوحاً؟ - هذا صحيح الرواية تحتاج إلى التفرغ
* هل نتوقع يوماً ان تصير نصاً مغلقاً في كتاب؟
- ان شاء الله اذا وفق البناء في اصلاح الخلل
* دكتور غباش بماذا تفسر ندرة الرواية في الإمارات؟
- اولاً لان الرواية فن يقتضي قدراً عالياً من التفرغ بخلاف القصة القصيرة أو الشعر، فالشاعر أو القاص يستطيع ان ينجز ويستريح، بعكس الرواية التي هي معمار ضخم يحتاج إلى تخطيط وبناء دقيق واعادة كتابة وفيها تحديات تقنية ضخمة، وتحتاج لعقلية بنائية عالية وتفرغاً تاما من قبل كاتبها، وبصراحة الكتاب العرب ــــ على مستوى الوطن العربي كله ــــ وليس على مستوى الإمارات فقط لا يتيسر لهم هذا التفرغ، ولذلك الروائيون العرب تقريباً هواة بسبب انهم ممنوعون من الاحتراف ومن ان يعطوا فنهم حقه، فنجد اغلبهم يقومون باعمال اخرى، وتأتي الكتابة الروائية في الليل أو في ساعات الراحة، بينما الوقت الاساسي يضيع بعيداً عن العملية الروائية، في هذه المسألة يكمن مقتل الرواية العربية على وجه العموم، عندنا روائيون موهوبون لكن مجتمعهم لا يتيح لهم هامش التفرغ الابداعي، وبالنسبة لمجتمعنا في الإمارات فهو مجتمع لا يحضن الرواية انما يحضن الشعر والقصة القصيرة إلى حد ما.
* يقول البعض ان واقع الإمارات في حد ذاته واقع غير روائي؟
- لا يوجد واقع غير روائي، بالعكس حتى اللا واقع يمكن ان يصير واقعاً روائياً، وانت تجد هذا مثلاً عندما تقرأ »ألف ليلة وليلة« أو عندما تقرأ روايات ماركيز الغرائبية، الرواية ليست لها مشكلة مع المادة الروائية، مشكلة الرواية هي مع الروائي ذاته، انت بحاجة إلى ان تنتج معماراً ضخما لكن الظروف المتاحة لا تسمح لك إلا بسرقة وقت من اوقات راحتك، وهذا ما يجعل الانتاج الروائي عندنا قليلاً ونادراً ونوعيته ليست بالمستوى المطلوب.
ازدهار القصة القصيرة * ربما كان هذا بالفعل ما يفسر ازدهار فن القصة القصيرة في الإمارات؟
- بالفعل لان القصة القصيرة فن الدفقة السريعة، وفن تحقيق الذات السريع، وممكن للقاص ان ينجز عمله في يوم، اسبوع، شهر، وينشره ويحصل على ردة فعل سريعة، لكن في العملية الروائية يمكن ان تقضي كروائي سنوات طويلة منفرداً وفي عزلة حتى تنجز عملاً روائياً ضخماً ولا احد يعلم بما يدور في رأسك، والنتائج في النهاية لما يخرج هذا العمل للنور بعد عدة سنوات يحتاج إلى قاريء جاد خاصة اذا لم تكن معروفاً، الروائيون الشبان مثلاً حتى يجدوا من يقرأ لهم يحتاجون إلى وقت اطول، والقصة القصيرة ـــ على فكرة ـــ الابداع فيها صعب جداً لان ارضها محروثة جيداً، ولكي تنجح في حقل القصة القصيرة ايضاً فلابد من مادة ابداعية متميزة وهذا أمر بالغ المشقة.
الرواية العربية: واقع بائس * كيف ترى واقع الرواية اليوم خليجياً؟
- في الخليج هناك بؤس حقيقي في الفن الروائي، حتى في العالم العربي هناك بؤس حقيقي في الفن الروائي، والسبب كما ذكرته لك وهو اننا في العالم العربي في ورطة حقيقية على هذا المستوى لان العمل الروائي غير مرعي اقتصادياً. * ولكن في العالم العربي هناك من يكتب الرواية في تسع سنوات مثل ادوار الخراط أو في خمس سنوات مثل صنع الله ابراهيم.. يعني هم بهذه الطريقة يتفرغون للرواية بشكل أو بآخر؟
-هذه هي التجارب الناجحة، وسرها ان مثل هؤلاء اما انهم يعملون في معمار أدبي أو ابداعي، أو يتفرغون بالفعل للكتابة وصنع الله ابراهيم متفرغ لفنه الروائي، وادوار الخراط يفعل الأمر ذاته فهو متفرغ لعمله الروائي، ومثل هؤلاء استثناء من القاعدة، حتى التجارب الناجحة تخيلها لو كان الكاتب فيها متفرغاً تماما لفنه الابداعي، ولذلك الروائيون العرب سيظلوا هواة حتى تتغير معطياتهم الاقتصادية.
* ومخرج الرواية والروائيين من مأزقهم كيف تراه على المدى المنظور؟
-الميزة العظيمة في الرواية أنها تستطيع ان تشكل مادة أساسية للفيلم الحديث، ويفترض ان يمثل هذا حلا اقتصاديا للروائي العربي، كما يفترض ان تنمو عندنا رواية جماهيرية يقرأها الخاصة والنخبة والعامة، فكثير من الكتاب العرب بصراحة يكتب زوايا تجريبية ينفر كثير من القراء العرب من قراءتها، وهذا تحدٍ أمام الرواية.

مقابلة مع مجلة الشطرنج
حوار مع رجل أولمبياد دبي 86

د. محمد غباش : الأولمبياد تجربة عمر لكل من شارك فيه
يعتبر أولميباد العالم للشطرنج الذي أقيم في دبي عام 1986 هو الأنجح والأفضل من بين جميع الأولمبيادات الشطرنجية منذ انطلاقة هذه البطولة في لندن عام 1927 وذلك بشهادة أغلبية الاتحادات الدولية وخبراء اللعبة العالميين. ولا شك أن الدكتور محمد عبيد غباش – نائب رئيس الاتحاد الدولي ورئيس اتحاد الإمارات للشطرنج سابقا - هو أحد أبرز رجال الحدث فهو صاحب الفكرة وعضو اللجنة العليا المنظمة التي نفذت أفضل نقلة شطرنجية عربية في القرن العشرين !
الدكتور محمد عبيد غباش من مواليد دبي عام 1952 ويعمل حاليا أستاذا للعلوم السياسية بجامعة الإمارات بالعين وعندما ذهبت إليه لإجراء هذه المقابلة وجدته يتبارى مع الكمبيوتر في مباراة شطرنجية مما يعكس حبه الدفين والمتواصل للعبة الأذكياء والمفكرين ..
سألته أولا عن بدايات اهتمامه بالشطرنج وممارسته للعبة ؟؟ فأجاب ……
* بدأ اهتمامي باللعبة عندما كان عمري سبع سنوات بمشاهدة بعض الشباب يمارسونها في المقهي فتعلمت اللعبة وبدأت ممارستها وفي بداية عام 1970 التقيت مع مجموعة من الشباب الهواة ومنهم خليفة دسمال وراشد الكيتوب حيث مارسنا اللعبة في النادي الأهلي بدبي. بعد ذلك سافرت إلى إنجلترا للدراسة وواصلت ممارسة هوايتي بنادي ” إكستر ” للشطرنج في لندن. بعد العودة عام 1977 انضممت إلى اتحاد الإمارات للشطرنج الذي كان قد تأسس عام 1976 وكان هناك نقص شديد في الموازنة المخصصة للعبة من قبل وزارة الشباب والرياضة حيث طالبنا برفع هذه الموازنة وكان هناك شد وجذب ومساجلات إعلامية حتى تكللت جهودنا بالنجاح في رفع الموازنة عام 1978. وكانت الخطوة الأولى المهمة التي ركزنا عليها هي التركيز على الناشئين فكان النجاح الكبير بالفوز ببطولة العالم للناشئين عام 1979 مما دفع اللعبة إلى آفاق عالمية . وبعد ذلك بدأنا تجربة رائدة حيث قام الاتحاد في خطوة غير مسبوقة إقليميا وعربيا بتبني إنشاء أندية شطرنجية بدأت كجزء من الاتحاد مثل نادي دبي للشطرنج الذي استقل لاحقا وتوالى بعد ذلك إشهار أندية شطرنجية أخرى في باقي إمارات ومدن الدولة مما جعل اللعبة تصبح أقرب جغرافيا للاعبين وأصبح كل نادي يمثل إمارة تدعمه ماليا وإداريا مما أعطى دفعة كبيرة للحركة الشطرنجية بالدولة.
** يعتبر أولمبياد دبي 1986 أبرز وأنجح الأحداث العالمية الشطرنجية . متى بدأتم التفكير في استضافة الأولمبياد وكيف خططتم لإنجاحه ؟؟
* الفكرة كانت مرتبطة بنشر اللعبة ففي السنوات السابقة قبل 1986 استنفذنا كل الأبواب المحلية لنشر اللعبة حيث رفعنا الموازنة إلى الحد الأقصى الممكن وكنا أبرز لعبة فردية وأنشأنا أندية شطرنجية استقلت عن الاتحاد وارتبطنا بعلاقات ممتازة مع الإعلام والصحافة فأخذت اللعبة اهتماما كبيرا ومستحقا. عندئذ أدركنا أننا بحاجة إلى قفزة نوعية طمعا في نشر أوسع للعبة . وهناك سبب أساسي جعلنا نفكر في استضافة الأولمبياد ففي عام 1979 أفتى الخميني بتحريم اللعبة وأصبحنا محاطين جغرافيا بثلاث دول ترفض اللعبة لشبهات دينية وهي إيران والسعودية وعُمان فشعرنا في اتحاد الإمارات للشطرنج أن إقامة حدث عالمي كبير مثل الأولمبياد على أرض الإمارات وتغطيته إعلاميا سوف ينقل الصورة الصحيحة للعبة إلى الدول المجاورة ولعل هذه كانت النقطة الحاسمة التي شجعت العديد من دول العالم على دعم إقامة البطولة في الإمارات. كما أن عدم إقامة الأولمبياد من قبل في أي دولة عربية أعطانا حقا أخلاقيا إضافيا وهو أحقيتنا كدولة عربية في استضافة هذا الحدث العالمي الشطرنجي الأبرز . وبالمناسبة فقد تراجع الخميني لاحقا عن فتواه وأصبح الاتحاد الإيراني للشطرنج من الاتحادات المتميزة أسيويا . وعندما اقتنعنا بأهمية استضافة الحدث خاطبنا المسئولين وكانت هناك صعوبات بسبب التكلفة المالية الكبيرة ولكن المسئولين وافقوا بعدما تأكدوا من أهمية إستضافة مثل هذا الحدث العالمي . ولعل النجاح الكبير والمردود الإعلامي الطيب الذي عكسه الأولمبياد عالميا عن الإمارات ودبي قد شجع المسئولين لاحقا على استضافة وتنظيم العديد من الفعاليات والأحداث العالمية خلال السنوات التالية. لقد حرصنا على تجنب بعض الأخطاء التي وقعت فيها الدول التي استضافت البطولات السابقة وحرصنا على تنظيم متميز من كافة النواحي الفنية والتنظيمية وكانت تجربة عمر بالنسبة لمئات من الذين شاركوا في هذا الحدث أو الذين ارتبطوا بذكريات جميلة عن الإمارات وعادوا إليها بعد ذلك زائرين. كما أن الأولمبياد قد أعطى دفعة كبيرة للعبة محليا وشجع الأسر على ترغيب أبنائها وبناتها في تعلم اللعبة وممارستها.
** كنتم أول شخصية عربية تتولى منصب النائب الأول لرئيس الاتحاد الدولي للعبة .. كيف تم انتخابكم لهذا المنصب الدولي الرفيع وما هي أهم إنجازاتكم خلال توليكم للمنصب ؟؟
* لقد ذهبت للعبة في البداية كلاعب وليس كإداري ، ولكن ما جذبني للمنصب الإداري لاحقا هو رغبتي في خدمة اللعبة محليا وعالميا . لقد كانت اللعبة في العالم هي مجرد لعبة هواية للأقلية بسبب طول وقت المباريات ولتغيير هذا الوضع فكرت في تطوير اللعبة من خلال إستحداث مسابقات للشطرنج الديناميكي ( السريع ) بواقع 25 دقيقة لكل لاعب للمباراة مع هامش حركة قدره خمس دقائق يحدده المنظمون وذلك من أجل تشجيع التلفزيونات على تغطية مسابقات الشطرنج وهذا بدوره شجع لاحقا على تطوير الساعات المستخدمة في حساب وقت التفكير للاعب وابتكار ساعات إلكترونية بعد ذلك بها أنظمة خاصة للشطرنج الديناميكي الذي أصبح مستقبل اللعبة . كما حرصت على تطبيق العدالة في المشاركات العالمية وإتاحة فرص أكبر للمشاركة للاعبين من دول العالم الثالث وهذه هي أهم الخطوات التي أنجزتها أنا وزملائي في الاتحاد الدولي لخدمة اللعبة عالميا.
** في اجتماعات الجمعية للاتحاد الدولي عام 1995 في فرنسا ، إستقال رئيس الاتحاد الدولي للعبة وطبقا للنظام الأساسي كان من المفترض بصفتك النائب أن تتولى منصب الرئاسة حتى إجراء انتخابات. فلماذا لم يحدث ذلك ؟؟
* كان هناك صراع مرير بين جبهتين ، الأولى تضم رئيس الاتحاد الدولي آنذاك الفلبيني ” كامبومانس” ومؤيدوه . أما الجبهة الثانية فكانت تضم مجموعة من الدول الغربية التي كان لها مشاكل مع ” كامبومانس” وتمت مواجهته ببعض المخالفات الإدارية والمالية مما دفعه لتقديم إستقالته ومن الناحية الإجرائية كان يجب أن أحل مكانه لحين إجراء انتخابات في اجتماع لاحق للجمعية العمومية ولكن ذلك لم يحدث لعدة أسباب منها أن الجو العام كان مسموم للغاية بسبب الصلة التي كانت تربطني بالرئيس المستقيل وإحساس بعض الدول الغربية بأنني وقفت معه مما خلق حالة من الاحتقان والمشاعر السلبية ضدي شخصيا. كما أنني لم يكن عندي طموح لتولي المنصب وأدركت لحظتها أن أي جهد يُبذل للإصرار على تطبيق النظام سوف يؤدي إلى إنقسام يشق الاتحاد الدولي. وهناك سبب آخر أصرح به لأول مرة وهو أنني شعرت بالضعف لكوني أتولى رئاسة اتحاد الإمارات بالتعيين وليس بالانتخاب مما أضعف موقفي الداخلي وفضلت تهدئة الأمور. ووقتها جاء رئيس جمهورية كالميكيا الروسية ” كيرسان ” وظهر كموحد للصفوف وتولى المنصب . بعد هذه الواقعة ابتعدت على اللعبة على المستوى العالمي وقررت التفرغ لها محليا وذلك ليس لعدم تولي المنصب ولكن بسبب الموقف العنصري الذي اتخذته بعض الدول الغربية ضدي لأنني عربي علما بأن هذه الدول كان لها موقف معارض لأولمبياد دبي ولم تشارك فيه . وبهذه المناسبة فإنني أطالب بأن يكون رئيس وأعضاء الاتحاد الرياضية في الإمارات بالانتخاب وليس بالتعيين حيث يجب ترك الديمقراطية تأخذ مجراها وأن نمارس التجربة بشكل كامل.
** أين أنت من اللعبة حاليا وهل لازلت تمارسها وتتابع أخبارها ؟؟
* لازلت عضو في نادي دبي للشطرنج وأمارس اللعبة بانتظام سواء في النادي أو من خلال الكمبيوتر وقبل نحو عامين شاركت في بعض البطولات المحلية المفتوحة والرمضانية .
** ما هو تقييمك لوضع اللعبة محليا وماذا ينقصها وماهي نصائحك للجيل الحالي من اللاعبين ؟
* يوجد نقص في الموارد المالية مما يعوق عمل أي اتحاد لدرجة أن ميزانية بعض الأندية أكبر من ميزانية الاتحاد وهذا يؤثر على تحقيق طموحات اللعبة . كما أن الإعلام الرياضي حاليا لا يعطي اللعبة حقها فليس هناك عمود منتظم في الصحف المحلية وليست هناك تغطية منتظمة لأخبار اللعبة. وكذلك هناك نوع من الركود فلم تؤسس أندية شطرنجية في رأس الخيمة وأم القيوين بالإضافة إلى أن نادي العين للشطرنج غير نشط . كما أن الاتحاد والأندية لا يستفيدون من اللعب السريع ” الديناميكي ” كما ينبغي والمصيبة التي تحدث في الأندية هي مسابقات الشطرنج الخاطف ” البليتز ” الذي يقتل ملكة التفكير الهادئ لعدة نقلات ويجب منعه . إن اللعب الطويل لا يتناسب مع طبيعة المرحلة ، لذا كان من المفترض أن نتبنى الشطرنج الديناميكي مثلما يحدث في العديد من دول أوروبا وذلك من خلال تنظيم مسابقات في عطلة نهاية الأسبوع وليس فقط في شهر رمضان كما تفعل بعض الأندية. إنني أطالب بالاهتمام وتبني تنظيم مسابقات الديناميكي فهناك نزيف مزمن للاعبين واللعب في نهاية كل أسبوع بانتظام سوف يخلق نوع من التعود الجميل والتشجيع على ممارسة اللعبة وزيادة قاعدة الممارسين لها.
** كيف ترى رياضة الإمارات حاليا وماهي رؤيتكم للنهوض بها ؟؟
* يجب أن تنفق الدولة أكثر على الرياضة لأنها أنشطة ضرورية وأخص تحديدا أنشطة الرياضة للجميع وليس رياضة النخبة . فالأندية الرياضية تصرف كثيرا على المحترفين وهذا غير صحيح حيث ينبغي الصرف أكثر على تشجيع ممارسة الرياضة في مختلف الألعاب وتطوير مبادرات الرياضة للجميع .
لماذا غاب الناقد عن الحياة الثقافية المحلية؟
تحقيق: وليد علاء الدين
الهدف من الحوار هو تقليب الأفكار بهدف الخروج منها بما هو جوهري وأصيل لتسليط الضوء عليه وطرحه على مائدة النقاش التي تجمع كافة المهتمين والمخلصين والحريصين على صالح هذا البلد والمنتمين له قلباً وقالباً. وقد أثيرت أخيراً مجموعة من الأفكار حول عدد من القضايا ذات العلاقة بالمشهد الثقافي المحلي، والتي كان من الضروري أن يُفتح الباب للنقاش حولها، من منطلق الحرص على استكمال المشهد الثقافي وتطوير الحركة النقدية بداخله وتفعيل دور الصحافة الثقافية الذي تحملت “الخليج” مسؤوليته منذ البداية.
تطرقت هذه الأفكار إلى مسألة غياب الحس النقدي والجمالي عن تركيبة الشخصية المحلية، محملة المؤسسة التعليمية ونظام التعليم النظامي الذي بدأ قبل خمسين سنة مسؤولية هذا الغياب، واعتبرته سبباً في تعطيل تجارب الإبداع والحراك الثقافي المحلي، في هذا التحقيق يتداخل عدد من الأكاديميين والباحثين والمثقفين حول هذه الأفكار في محاولة توصيف المشهد الثقافي المحلي، وبطبيعته يفتح الحوار العديد من الأبواب على الكثير من الموضوعات الجديرة بالإثارة بغرض التطوير والتنمية، ليجيء التحقيق التالي شهادة بانورامية من أشخاص فاعلين في المشهد الثقافي المحلي على منجز الحراك الثقافي في الإمارات بعد أكثر من ثلاثين سنة على بدء النهضة المحلية وأكثر من خمسين سنة على بدء حركة التعليم النظامي فيها:
العقل الناقد موجود
بدأت الدكتورة مريم سلطان لوتاه الأستاذة في قسم الشؤون السياسية في جامعة الإمارات مداخلتها في الموضوع قائلة بصعوبة التعميم والقول بغياب العقلية الناقدة سواء في الإمارات أو على مستوى العالم العربي، وأضافت: كما أنه من الصعب أيضا إرجاع غياب العقلية الناقدة إلى عامل واحد فحسب وهو عدم التركيز على الدراسات الأدبية والإنسانية، كما أن التركيز في عملية التدريس على سد احتياجات سوق العمل هو مسألة جديدة في الإمارات تحديداً، ربما لا يتجاوز عمرها 10 سنوات خاصة أننا دولة حديثة النشأة وحديثة العهد بالتعليم، وكل التخصصات كانت مطلوبة قبل ذلك التاريخ.
وقالت لوتاه: صحيح أن تكامل فروع المعرفة بما فيها من علوم إنسانية وتطبيقية مسألة في غاية الأهمية لبناء فكر الإنسان وبلورة شخصيته، وأن المعارف الإنسانية خضعت لمفاضلة معرفية عندما تم تقديم العلوم التطبيقية على العلوم الإنسانية، ثم خضعت لمفاضلة جديدة عندما تم تحديد أهمية المعارف بناء على حاجة سوق العمل لها، الأمر الذي يعني تدريجياً القضاء على جوانب مهمة من المعرفة الإنسانية التي لا يمكن أن تستقيم حياة الإنسان من دونها كالفلسفة والمنطق وعلوم اللغة وغيرها من العلوم. إلا أنه في اعتقادي أن العقل الناقد موجود، وربما القصور هو في عدم إتاحة الفرصة له للتعبير عن ذاته، وإن وجدت هذه الفرصة فهي محدودة، وإن أتيحت فإنه نادراً ما تعطي الأهمية لذلك النوع من التفكير وقلما يُعمل بها، فتكون المحصلة في النهاية الشعور باللاجدوى.
وفي ما يتعلق بالعملية التعليمية ومسؤوليتها في تغييب الحس النقدي والجمالي، قالت الدكتورة مريم لوتاه: أنا أرى أنه أيضا من الصعب القول إن التعليم في عالمنا العربي لا يساعد على خلق العقلية الناقدة أو المجددة أو المبدعة، فبيننا على امتداد العالم العربي الكثير من النقاد والمبدعين والمفكرين، وهم نتاج السياسات التعليمية والبيئة الثقافية والسياسية نفسها، فما الذي جعل البعض يبدع في ظل هذه البيئة، في الوقت الذي نتهم فيه دائماً نظمنا التعليمية بقتل التفكير الناقد والإبداعي؟
وأضافت: أنا أتصور أن وجود التفكير الناقد لا يعتمد على المؤسسة التعليمية وحدها، وإنما هناك الأسرة والمدرسة والمؤسسة الدينية، ولكل منها خطابها وأسلوبها في التنشئة، فلا تستطيع المدرسة (النظام التعليمي) أن تخلق تفكيراً ناقداً في ظل مناخ عام مناهض لذلك أو مقيد له. وأعتقد أن الثقافة المجتمعية بصفة عامة هي المسؤولة عن وجود العقلية الناقدة، أو غيابها، فهناك قيم ثقافية تخلق أو تعزز مفهوم (المواطنة المسؤولة) الذي يشعر معه الفرد بأنه معنيّ بكل ما يدور حوله وقادر على فهمه ونقده وتصحيحه بالإضافة إلى قناعته بضرورة مشاركته وأهمية وجدوى تلك المشاركة، وعلى النقيض من ذلك نجد الثقافة المجتمعية أحياناً تعزز السلبية واللامبالاة أو الشعور باللاجدوى من وراء المشاركة، عندها لا يسعى الإنسان إلى فهم ما يدور حوله، ولا يكترث لنقده، أو محاولة تصحيحه. وأكدت لوتاه أن ما تقصده بالثقافة المجتمعية هنا، ليس نتاجاً للعملية التعليمية فحسب، بل هو نتاج لعملية التنشئة والمناخ العام المحيط بالفرد والذي يصوغ سلوكه وتوجهاته. وأضافت: القضية إذن ليست قضية تعليم، بل مناخ عام، والمقارنة التي تتم بين العصر الحديث والماضي باعتبار الأول ضم شخصيات رائدة خلا منها الآخر ليست مكتملة، واعتبرت أن وجود شخصيات رائدة وناقدة ليس نتاجاً للعملية التعليمية فحسب وإنما هو نتاج مناخ عام، وقالت: فمناخ الأربعينات والخمسينات وحتى الستينات من القرن الفائت في العالم العربي كان مناخاً دافعاً نحو التغيير والنقد والتصحيح والبناء، بعكس مناخ السبعينات وما تلاها من سنوات اعتقد فيها الفرد والحكومات أن رحلة التحدي قد انتهت بانحسار موجة الاستعمار وقيام الدولة الحديثة.
الإبداع ليس صفة فردية
الدكتورة منى البحر رئيسة قسم الخدمة الاجتماعية في جامعة الإمارات، رأت أنه ليس من مهام الجامعة أن تخرج ناقداً، واعتبرت أن دورها الأساسي هو تقديم التعليم والمعرفة العامة إلى جوار تقديم بعض المهارات التي تعين الخريج على مواجهة الحياة. وقالت: من وسط هؤلاء هناك من يكتفي بهذا القدر، وهناك من يتجه نحو استكمال الدراسة والتحصيل بهدف زيادة وتوسيع افقه المعرفي. هذا الأمر يعني أن ثمة عوامل أخرى تشترك في صناعة العقل الناقد، يمكن إيجازها بعبارة السمات الشخصية، الأمر الذي يحيلنا إلى البيئة التي تلعب الدور الأساسي في خلق مكونات التفكير الناقد والإبداعي في الشخصية، وقالت: من هذا المدخل لا يمكن أن نلقي باللوم على المؤسسات التعليمية فحسب، وإن كانت باعتبارها جزءاً من تركيب البيئة تتحمل جزءاً من المسؤولية.
وأضافت البحر: أنا كعضو هيئة تدريس يستحيل علي أن أتمكن من تخريج ناقد، والجامعة كمؤسسة أكاديمية تركز على المساقات والمناهج التي أعدت لها ، وليس من ضمن مهامي كمدرسة في الجامعة تخريج شخص لديه قدرة نقدية في حين أن المجتمع ككل لا يشكل بيئة صالحة بحيث تشجع أو تعزز القدرة على النقد الحر.
وقالت: ولنبحث قليلاً في ما هو ابعد من هذه النقطة؛ في الحقيقة مشكلتنا تكمن في أننا ليس لدينا مؤسسة بالمعنى الحقيقي لهذه الكلمة، أضرب مثالاً بتجربتي الشخصية: درست في الولايات المتحدة الأمريكية، وأنجزت أطروحتي لنيل درجة الدكتوراه في العام 1997 بعنوان (دراسة مورفولوجية لتقصي مفهوم الطبيعي وغير الطبيعي) وكنت أجريت تطبيقاتي لها على متعاطي المخدرات، ونلت عن هذه الأطروحة العلمية جائزة (موريس كورنيل) لأفضل باحث، وهي جائزة أكاديمية محكمة تمنح للرسائل العلمية التي تصدر من جامعات أمريكا، وتمنح سنوياً للرسائل التي تقدم معرفة جديدة غير متكررة، وهي اعتراف بامتلاكي قدرات بحثية جيدة، عدتُ إلى بلدي وأنا أظن أنني سوف أتمكن من المساهمة بتلك القدرات في عملية البحث العلمي بها، ولكني لم أنل أي تقدير كباحثة، ودخلت الجامعة من دون أي تمييز، كنت أتمنى أن أجد البيئة التي يكون فيها الإبداع والكفاءة والتميز معايير للحكم والترقي، وما حدث أن مهاراتي البحثية ضاعت مني، لأنني اندمجت في مهام وظيفية لا علاقة لها بالإبداع، في هذا الجو لابد أن يُصاب الأكاديمي بالإحباط، إذا لم تتوفر البيئة المجتمعية التي تقيم الناس وفقاً لعطائهم فلن يظهر متفوقون، ومن يظهرون بجهودهم الفردية سرعان ما يتراجعون لأنهم يواجهون العديد من المشكلات والمصاعب والنظرات الغريبة، هل ترى في الإمارات شاعرات متجاوزات ويملكن القدرة على الكتابة الإبداعية الحرة غير ميسون صقر وظبية خميس، وربما خلود المعلا؟ الباقيات مكبلات ونمطيات، إنه مقياس أيضاً، أنا كباحثة أحتاج إلى المؤسسة التي تحتويني وتوفر لي الوقت والأدوات، المجتمع ككل مقصر، ولا أستطيع أن أوجه اللوم إلى الجامعة فحسب.
واستطردت الدكتورة منى البحر قائلة: خلال عملي كعضو هيئة تدريس أحاول كل جهدي أن أغرسَ في طلابي حب السؤال، وهم يرفضون، هل نستطيع أن نجبر الطلاب على حب السؤال، الطريق الأول والوحيد إلى المعرفة؟ إنهم يتعلمون من أجل الحصول على شهادة.هناك خلل في البيئة المجتمعية، وكذلك المؤسساتية، لا يوجد نظام مؤسساتي فعلياً في الإمارات، بمعنى النظام الذي لا ينتظر الأفراد ولا يتغير بتغيرهم، إن المؤسسة تعني نظاماً يتيح تكافؤ الفرص وإمكانية تطور الفرد وترقيه بناء على مهاراته وقدراته الموضوعية والجوهرية، وألا يكون للنجاح صلة بأمور أخرى شخصية، وهذا غير حادث لدينا.
وقالت: أتفق مع القائلين بغياب الحس الإبداعي والنقدي، ولكني لا ألقي اللوم على المؤسسة التعليمية، فحسب، فأنا أرى الخلل في البيئة كلها. يلقون اللوم على الجامعة، 4 سنوات من عمر الإنسان، مهمتها فيهم توفير تعليم عام للطالب، الطلاب في الجامعة مثلاً يدرسون مساقاً بعنوان التفكير الإبداعي، هل يعني هذا بالضرورة أن يكون كل طالب مبدعاً بعد دراسة هذا المساق؟ الخلل مجتمعي وعام، وأتصور أن هناك إشكالية في عملية التربية أساساً، ولا ألقي اللوم على الأسرة أيضاً، هناك معايير متفق عليها اجتماعياً وعلى الأسرة والمدرسة والمجتمع العمل على تأسيسها لتصبح جزءاً من الشخصية، في بيئتنا العربية كلها نشترك في هذا الخلل، الإنسان العربي لا يتربى على حرية إبداء الرأي أو على حرية القبول والرفض، هي أمور مغيبة في البيت وفي المدرسة.
وأضافت البحر: أنا أدرس طلابي وفق هذا المنهج، وحين أطلب منهم التداخل معي بالرفض أو بالقبول، يبدون تخوفهم، باعتبار أنني صاحبة سلطة قد أستعملها ضدهم، المسألة متداخلة، وهذه الهرمية في السلطة والنفوذ هي السبب في المشكلة، كل شخص يفرض سلطته على الذي يليه، في البيت يكون الأب هو صاحب السلطة المطلقة، وفي المدرسة يتصدر المدرس أعلى السلطة، وهو أمر ينتقل إلى المؤسسات التي نعمل بها ليكون الأمر في يد المدير وينتقل الخوف من الأب، ثم من المدرس إلى الخوف من المدير ومحاولة كسب رضاه، كيف يخرج من بين هؤلاء مبدعون؟ الإبداع صفة مجتمعية وليس صفة فردية.
المؤسسات المحلية وتغييب المثقف المواطن
أمر آخر له أهميته هنا، كما رأت الدكتورة منى البحر، رئيسة قسم الخدمة الاجتماعية في جامعة الإمارات، وهو أن التوجه الثقافي في الدولة وكذلك التوجه الإعلامي يغيبان المثقف والمبدع المحلي، وأضافت: عندما تكون لدينا فعالية ثقافية فإن مؤسساتنا تلجأ إلى المثقفين من الخارج، وتنسى أو تتناسى المثقف المحلي، وإن تذكرت وسائل الإعلام وجوده فإن طريقة عرضه تحمل رسالة ضمنية تقول بشكل أو بآخر ان هذا المثقف لا يقوم سوى باجترار نتاج الآخرين الإبداعي. خذ مثالاً مهرجان دبي الثقافي الذي لم يسلط الضوء على مثقف إماراتي واحد، بعض هؤلاء المثقفين المحليين لم يحظ حتى ببطاقة دعوة إلى فعاليات المهرجان، وأرى أن عليهم تغيير اسمه إلى مهرجان عربي ثقافي، ولا داعي لذكر اسم محلي عليه، المؤسسات المحلية يبدو كأنها تعمل على تغييب المثقف المواطن وإشعاره بأنه هامشي، وأنه لن يرقى إلى درجة إبداع الآخرين، بينما هؤلاء الآخرون يحظون بدعم بلادهم لهم، الذي يجعلنا نعرفهم ونستضيفهم.
وأضافت: نحن نعمل وننتج ونجتهد، وليس مطلوباً منا أن نسعى إلى تسليط الأضواء على أنفسنا، هذه ليست مهمتنا، العديد من الدراسات والأبحاث والكتب تنشر لنا في الخارج، ولا أحد يهتم هنا. على سبيل المثال صدر لي كتابان في معرض كتاب الشارقة الأخير، وأنشغل الآن بكتاب ثالث، والحال نفسه لزميلات وزملاء كثر، إلا أننا لن نقدم أنفسنا للإعلام ولن نستجدي الأضواء، هدفنا هو إيصال رسالتنا وحسب.
وحول فكرة المقارنة بين العصر الحديث والقديم في الإمارات من حيث وجود رجالات بارزين في العمل المجتمعي والثقافي، قالت الدكتورة منى البحر: معظم من برزوا في فترات سابقة ممن يسمون بالرواد، كانوا إما شعراء أو رجال دين، في الوقت الحاضر لدينا مختصون في كل مجال من مجالات العلم والمعرفة، يعرفهم العالم أكثر مما يعرفهم الناس هنا، ولا أعرف سراً دقيقاً وراء ذلك، وإن كنت أعتقد أن ما ذكرته آنفاً جزء من أسباب هذا الغياب. وفي اعتقادي أن القاعدة في وطننا العربي هي: ما دمت على قيد الحياة فلا أحد ينتبه إليك، فلابد للمبدع العربي إذن من أحد أمرين لكي يعرفه الناس، إما أن يموت أو أن يأتي الاهتمام به من الخارج.
وأضافت: لو أردنا جيلاً مبدعاً وخلاقاً، علينا أن نلتفت إلى مؤسساتنا، ونرسخ قواعد تكافؤ الفرص، ونوسع مساحات حرية التعبير والتفكير وتقدير العمل، ساعتها سيتنافس الكل بشكل شريف ويكون تقدير العمل على أسس موضوعية، وهذا هو السر وراء نجاح الغرب. في اوروبا على سبيل المثال هناك سياسات ثقافية تضعها الدول، وهو أمر غائب لدينا، في الدول الإسكندنافية مثلاً، الدنمارك، السويد، فنلندا تمتلك كل دولة سياسة ثقافية واضحة، وتصدر بشأنها قرارات، ويتم تفريغ مجموعات من الباحثين والمبدعين والمترجمين والفنانين وغيرهم لتنفيذ برامج هذه السياسة، هل تعرف أنهم في الدنمارك يحتفلون كلما حظي كتاب لأحد مبدعيهم بالترجمة إلى لغة أخرى؟ يعتبرون ذلك خطوة في سبيل تعريف العالم بحضارتهم، ويقيسون تطورهم الحضاري بمقدار ونوع ما ينتجونه ثقافياً وعلمياً، بينما لدينا نجد العكس، حيث ننظر إلى الإنتاج الأدبي والثقافي والعلمي باعتباره في المرتبة الثالثة مثلاً بعد الاقتصاد، التقدير يتم على أساس مالي وليس معرفياً، واختتمت الدكتورة منى البحر حديثها بقولها: هذا المثال يردنا مرة أخرى إلى أنموذج القيم التربوية، ولكن في صيغة تساؤل: لماذا يفكر الشاب لدينا في الحصول على الشهادة العلمية؟ الإجابة: ليس حباً في المعرفة، ولكن لأن هذه الشهادة سوف توفر له وظيفة تدر عليه دخلاً، إذن تعريف العلم لدينا هو وسيلة مثالية للحصول على المال.
الفجوة بين التعليم والبحث العلمي
من جانبها رأت الدكتورة مريم بيشك مساعد عميد كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية وأستاذة الأدب الإنجليزي في جامعة الإمارات أن العلوم الإنسانية والاجتماعية تحظى بالنصيب الأكبر من الاهتمام في جامعاتنا ومؤسساتنا الأكاديمية، وأضافت: أعتقد أن المشكلة لا تكمن في عدم الاهتمام بتدريس هذه العلوم، وإنما في طريقة استقبال المجتمع بمنظوماته ومؤسساته المختلفة لمن درسوا وتخرجوا في هذه الأقسام. أعني الحركة الثقافية للمجتمع ونظرته للدارسين والمتعلمين.
وقالت: يُعد قسم اللغة العربية في جامعة الإمارات واحداً من أكبر الأقسام، وتدرس به حوالي 650 طالبة، أكاد أجزم من خلال علاقتي اليومية بهن كأستاذة لهن، أنهن يمتلكن حساً نقدياً وإبداعياً جيداً ويتمتعن بمواصفات عقلية تؤهلهن للمشاركة في الحياة الثقافية، إلا أنه يتم توجيههن حال تخرجهن للعمل كمدرسات يتم إنهاكهن في تفاصيل إدارية وتعليمية كثيرة، والسؤال إذن: لماذا تنطفئ شعلات الموهبة والتدفق الموجودة لدى هؤلاء الطالبات عندما ينخرطن في منظومة العمل الروتينية؟
وقالت بيشك: أمر آخر يضاف إلى ذلك، وهو غياب ذلك النوع من المؤسسات التي تهتم باستكشاف المواهب والتقاطها وتدريبها وصقلها ودعم مواهبها، نحن لا نُجيد استثمار المواهب، الجامعة تُخرج للمجتمع أشخاصاً طازجين، إلا أن منظومة المجتمع تقوم بتنميطهم وفقاً للأنماط السائدة فيها، فإذا كان معيار النجاح هو الحصول على وظيفة جيدة، والحصول على مرتب جيد، فإن ذلك يعني أن يتوجه الجميع نحو هذا الهدف.

وأضافت: عندما نتحدث عن خريج الجامعة يجب أن نحدد جانبين هما المعرفة العقلية، والمهارة المعرفية، نحن في تدريسنا للغات على سبيل المثال نعترف بالمهارة المعرفية التي تميز شخصاً عن آخر فيكون مبدعاً في الخطابة مثلاً، في النقد، في كتابة الرواية والشعر، وغيرها، أما المهارات فهي ما يتم اكتسابه بعد ذلك من خلال الممارسة والعمل والانخراط في الفعل، وهو ما لا يتوافر للثقافي والأدبي في ظل أنموذج الحياة الذي يركز على الاقتصادي والمالي. وساقت بيشك المثال على ذلك قائلة: في الجامعة لدي طالبات مبدعات لديهن حس فني وجمالي عال، يجدن الفرصة والعون في نادي المبدعات، وفي نادي المتفوقات في الجامعة، وهن ينتجن بنشاط وتفوق خلال سنوات الدراسة، إلا أنهن بعد انخراطهن في سوق العمل ولا يجدن أي ميزة لهذه المهارات التي أتقنها فإنهن يتوقفن عن الإنتاج.

واعتبرت بيشك أن الخلل مجتمعي، وأضافت: ينبغي ألا نعقد المقارنة دائماً بين مجتمعنا وبين المجتمعات الأخرى، وأضافت مقدمة تصوراً لأسباب الفجوة بين مخرجات التعليم الحديث والمجتمع: عندما حلّ التعليم النظامي في الإمارات محل التعليم التقليدي السابق فإنه أخرج إلى النور جيلاً من المثقفين والمبدعين لا يمكن أن نغفل فضل عطائهم على التنمية الشاملة، إلا أن زاويةً ما في الأمر لم تحظ- في رأيي- بما تستحق من الانتباه، وهي أن المثقف التقليدي ( لتفريقه عن المثقف ما بعد الدراسة النظامية) كان مثقفاً عصامياً ثقف نفسه بنفسه من معطيات مجتمعه، بمعنى أن هؤلاء المثقفين كانوا نتيجة مباشرة لشخصية مجتمعهم وتطوروا معه تدريجياً، وبالتالي جاء اندماجهم معه سهلاً، وكانوا قادرين على محاورته وقيادته رويداً نحو ما يرونه الأفضل، أما جيل التعليم النظامي فقد تلقى العلم وفقاً للأنظمة الحديثة كالتعليمات الجاهزة، فأصبح أفراده متطورين وفقاً لهذه العلوم، بشكل منفصل إلى حد ما عن المجتمع، الذي كان في أمسّ الحاجة إلى تكوين كوادر وطنية لملء الشواغر الحتمية لتلك المرحلة. وقالت: الشيء الذي أقصده أن استعمال أجيال المتعلمين الأولى في ملء الشواغر الحتمية كان أمراً ضرورياً لا يمكن تجاهل أهميته، إلا أن ما تم إغفاله هو السياق، بمعنى أن ذلك لم يتم باعتباره مرحلة يجب أن تتبعها مراحل أخرى ذات توجهات مختلفة تنتقل فيها “منظومة العلم” من “التعليم” إلى “البحث العلمي”، بمعنى خلق الرغبة في نفوس الناس في البحث العلمي وخلق الحافز في المجتمع في ممارسة هذا النوع من الأنشطة، يبدو أننا حتى لحظتنا هذه لم نلتفت إلى ذلك، وبدأنا ننتبه إليه فقط عندما انتبه إلينا الآخرون فأحسسنا أننا نمتلك ما هو جدير بالبحث، وأضافت الدكتورة بيشك: هذه الفجوة بين التعليم والبحث العلمي في رأيي هي التي تسببت في هذا الخلل.


وفي معرض مداخلتها حول مظهرية الحركة الثقافية في الإمارات قالت: ما أريد قوله هو أن الثقافة غرسٌ في تربة، وما يظهر من هذا الغرس يدل عليه، وأظن أن طريقة الثقافة العربية في التعبير عن نفسها اقتصرت منذ زمن على المحاضرات والمؤتمرات وإصدار الكتب، وأظن أن هذا أمر ليس بالسيئ ولكن ينبغي أن نؤسس بجواره حركة بحث علمي رصينة وقوية.

من زاوية مغايرة اعتبر الروائي الدكتور محمد عبيد غباش أن الحس النقدي والجمالي غير موجودين من الأساس، وقال: ما يمكن أن نوجهه إلى منظومة التعليم في هذه الحال أنها لم تعمل على غرس هذين الحسين في الشخصية المحلية، وأرجع غباش فكرته إلى أن المجتمع الإماراتي قبل التعليم كان مجتمعا بدويا زراعيا يمتلك حساً مختلفاً للجماليات بحكم الوضع الحضاري المتواضع الذي يمر به، والذي لا يحتوي على أي جماليات بصرية وتشكيلية بالمعنى الفني لها، وقال: أجدادنا كانوا يعيشون حياة الكفاف، بالكاد يحصلون على رزقهم، ومن يحيا في هذه الأجواء لا يمكنه أن ينتج إلا ثقافة متواضعة، وهذا لا يعني التقليل من شأن ما أنتجه الأجداد، وإنما يعني الموضوعية في النظر إليه.

وأضاف غباش: في هذه الحالة أعتقد أن التعليم على العكس من الاتهام الموجه إليه قد منحنا قدرات على تذوق جماليات جديدة، وقال: أصبحت نتيجة للتعليم هناك فئة تتذوق الكثير من الفنون الحديثة، وتشارك في إنتاجها، وعلينا أن نصوغ السؤال ليصبح: إلى أي مستوى وصلت هذه القدرات، وهل عملنا على تنميتها وتطويرها؟

وحول فكرة الحس النقدي قال غباش: الحس النقدي هو مرحلة أكبر بكثير من مرحلة التذوق التي أشرنا إليها، فأنت تستطيع أن تتمتع بمشاهدة فيلم سينمائي ولكنك لن تتمكن بسهولة من التداخل النقدي معه، هذا مثال بسيط، وأضاف: من البداهة أن يكون الحس النقدي غائباً عن مجتمعنا، لأنه مرحلة فلسفية راقية لا يمكن أن تظهر في المجتمعات الشفاهية أو شبه الأمية، وقال: مجتمعنا قبل أقل من 100 سنة كان بالكاد يتواصل مع الحضارة الحديثة، وكانت علاقاته بالثقافة العالمية في الحدود الدنيا لها، وهو أمر راجع إلى طبيعة الظروف التي كان يمر بها، على العكس من بغداد والقاهرة وبعض الحواضر العربية الأخرى مثلا. على هذا الأساس النظام التعليمي لدينا لم يسهم كثيراً في أمر غياب الحس النقدي.


وقال غباش: أختلف مع ما يثار حول دور الجامعة، وكذلك مع تعميم فكرة الاستهلاك فيما يخص الحاصلين على درجات الماجستير والدكتوراه، هؤلاء الأساتذة سعوا إلى العلم وحصلوا على درجات عليا فيه وعمقوا معرفتهم بتخصصاتهم وامتلكوا رؤية نقدية أعمق فيها، لكن المشكلة هي أن النقد حركة مجتمعية وليس حركة أفراد، بمعنى أنه حركة تتكامل بإسهامات كافة الفئات بمن فيهم الأكاديمي والصحافي والسينمائي والشاعر، وغيرهم، وهذه الحركة لدينا غائبة، وبالتالي تغيب جهود هؤلاء الأفراد رغم قدراتهم.

وحول أسباب غياب هذه الحركة أشار الدكتور محمد عبيد غباش إلى مجموعة من العوامل أهمها الكثافة البشرية الضئيلة، وغياب البنية الثقافية التحتية، وقال: لا تستطيع الجامعة وحدها خلق حركة نقد، والمساهمات الفردية مهما كثرت فستظل فردية ما لم تنتظم في صورة جماعية، وأضاف: لذلك أعتقد أن التعميم في هذه الحالة ظلم لأن أستاذ الجامعة هو في الأساس همزة وصل ما بين الاختصاص المعرفي الذي يعمل فيه بعالميته وبين البيئة المحلية التي يمارس دوره خلالها، فأستاذ الفلسفة مثلاً عليه أن يحيط بأساسيات هذا العلم وأن يتفاعل من خلالها مع الطلاب في محيطهم العملي، وأعتقد أن زملاءنا في حقول المعرفة المختلفة يقومون بهذا الدور بشكل لا يجوز معه غمط حقهم، ويصبح من التجني أن نوسع من دائرة الاتهام ونسقطه على كل الأكاديميين، وما هم إلا مفصل من مفاصل متعددة مطلوبة لخلق حركة نقدية أو ثقافية أو فنية في المجتمع، بينما بمفردهم لا يستطيعون ذلك.

وأضاف: الحس الناقد إذن مرحلة لم نصل إليها بعد، وهي تحتاج إلى بنية تحتية غير موجودة لدينا، بينما التذوق موجود وبشكل واسع، لا أعني أن جميع الناس يتذوقون وإنما أعني أن النسبة جيدة، وأضاف: ولكن ينبغي أن نعرف أن النقد مشكلة الوطن العربي كله، بلدان مثل مصر وسوريا تعاني مشاكل على المستوى النقدي، ربما المغرب إحدى الدول التي تمتلك حركة نقدية قوية، فما بالك بمجتمعنا الصغير حديث النشأة وأضاف: كما أن عملية النقد مندمجة مع الوضع السياسي، لأن النقد الحقيقي في حاجة إلى أن يكون في مجتمع يحتمل المختلف عنه ولا يرفضه، وهنا لب إشكالية المثقفين النقديين لدينا، فبدلاً من أن يحميك المجتمع فإنه يصبح عدواً لدوداً لك أكبر من الحكومات والدول، وفي اعتقادي أننا نظلم الحركة المحلية بتوجيهنا مثل هذا السؤال حول حركة نقدية لأن حركتها الثقافية كاملة لا تضم أكثر من جيلين أو ثلاثة أجيال.

وتفسيراً لما عناه الدكتور محمد عبيد غباش بالبنية الثقافية التحتية التي رآها غير مكتملة في الإمارات، قال: البنية التحتية الثقافية تكتمل باستقلال المبدع، وتمكنه من العيش بعيداً عن وظيفة أخرى لا علاقة لها بإبداعه، وقال: هل يستطيع المبدع في الإمارات أن يعيش ويتفرغ لإبداعه ويسدد فواتير معيشته؟ وأضاف: الثقافة في بيئتنا ما زالت تطوعية، نعمل مجاناً، ونكسب عيشنا من خلال أعمال أخرى: صحافة، تجارة، وغيرهما من نشاطات تحرمنا الجزء الأكبر من أوقاتنا، لتصبح الثقافة خلسة في الليل أو في أوقات الراحة، وهذا الوضع ليس خاصا بنا، نحن نشاطر فيه المثقفين العرب. وقال: الاستقلال سؤال وجودي، إذا لم يستطع المثقف أن يستقل عن الوظيفة فلن يستطيع أن ينتج إبداعاً راقياً. لذلك نحن في عالمنا العربي أشباح مبدعين، أو نسخ ضعيفة عما كان يمكن أن يخرج منا لو أننا أولينا صناعتنا الثقافية حقها التام. بيننا أفراد ربما استطاعوا تجاوز مراحل من هذه الأزمة، وهؤلاء نفدوا بجلودهم من أسر البيئة الذي لم يستطع آخرون الفكاك منه، وقال: أتابع بحزن مشاريع لم تكتمل لمثقفين وأدتهم البيئة، وأقول انه مقابل كل مبدع استطاع أن يصل بمشروعه إلى الساح الثقافية، عشرة مبدعين ربما أهم منه وأدتهم البيئة وخنقتهم ظروف خارجة عن إرادتهم، وفي النتيجة يعود هذا الفقد علينا سلباً.
وفي تداخله حول فكرة الرواية المحلية وفكرة التقسيم القطري للإبداع، قال الدكتور محمد عبيد غباش، أعتقد أن هناك تجارب روائية مميزة في التجربة المحلية، علي أبو الريش لديه أعمال تستحق التوقف عندها، وأضاف: ولكن بشكل عام لا نملك تلك الكثافة الكتابية التي تحفز أجيالاً جديدة على الإبداع، كما أن التفرغ والتخصص وحركة النشر والتوزيع ، وهي أجزاء أخرى مما عنيته بحديثي حول البنية الثقافية التحتية، كل هذه الأمور لا تسهم في استكمال التجربة وتراكمها، نلاحظ أن الروائيين يقومون باستكمال مفردات هذه البنية بأنفسهم، من الألف إلى الياء، وهذا عبث نتيجته أنه بدلاً من أن نمتلك روائياً متخصصاً في فنه ممتلكاً لأدواته، يكون لدينا شبح روائي وشبح موزع وشبح ناشر، وهو ما يُحبط المبدع ويمنعه من التطور.
وحول رؤيته للخروج من هذه الصورة قال الدكتور محمد عبيد غباش: يجب تحسين وضع النشر في العالم العربي، والقضاء على ما فيه من قرصنة، وأضاف: عالم النشر أصبح غابة تحتاج إلى ضبط، علينا أن نسعى إلى تنظيفها من المغامرين والأفاقين واللصوص ليصبح النشر قطاعاً يحترم القانون والحقوق ويُدخل نوعاً من الحرفية في عمله. وقال: على وزارات الإعلام والثقافة العربية أن تدرك أنها ضالعة في عملية قتل جماعي للإبداع، وعليها أن تعيد النظر في أمورها ربما نتمكن من الخروج من وضعية الأرض المحروقة الثقافية التي نمر بها الآن. واختتم غباش حديثه قائلاً: عزل الثقافي عن الاقتصادي أبعدَ المثقف عن مكانته التي يستحقها في عملية الإنتاج، وأضاف: بطرد الثقافة من الدورة الاقتصادية أصبح المثقف مجرد موظف، نحن في حاجة إلى أن يكون للثقافة دورها في الإنتاج في المجتمع بحيث نصل إلى الوضع الذي يستطيع المبدع خلاله أن يستقل بإبداعه ويعيش منه.

بدأ الدكتور محمد الرواي رئيس قسم أصول التربية في جامعة الإمارات مداخلته من زاوية تخصصه فقال: بالفعل مناهجنا التعليمية منشغلة بتخريج حفّاظ، ولا تنشغل بتعليم الطلاب كيف يفكرون، وأضاف: لا توجد لدينا حرية إبداعية للمدرس والمدرسة للتطوير والتداخل مع المناهج وفقاً لطبيعة الطالب والبيئة، الأمر نوع من الالتزام الإجباري بدراسة وحفظ كمية من المعلومات من أجل استحضارها في امتحان، والمتميز هو من يحصل على أعلى الدرجات، وليس من خلال الإبداع والأنشطة. ولذلك تجد أن أطفالنا مبدعون ومميزون في فترة ما قبل المدرسة، إلا أنهم سرعان ما يتحولون نتيجة الحفظ والتلقين إلى مجرد أنفاس تتلاحق من أجل اتباع التعليمات. وهو ما يجعلني أصف مدارسنا بالطاردة وليست بالجاذبة نتيجة لهذه القيود.

وأضاف الدكتور الرواي: هناك نظرة جديدة بدأت تستشعر خطورة الأمر، وتضع أيديها على هذه السلبيات، وهناك أفكار لتغيير هذه المناهج وإدخال عناصر مثل التأمل، التفكير، خلق المعرفة في مناهجنا المدرسية، وهذا الأمر لا بد له، من أجل أن يتحقق، من حرية ومرونة وفرص لتجاذب أطراف الحوار بين المعلم والمدرسة والطلاب باعتبارهم عناصر العملية التعليمية.

وقال: هذه النظرة المستقبلية تعتمد في تقويمها للطالب على الحوار والإبداع والحركة والنشاط بنسبة 70 إلى 80 في المائة، والبقية تعتمد على الامتحان التقليدي، الذي تعتمد عليه النظرة التقليدية بنسبة 100 في المائة. والمحصلة التي نتمناها هي مخرج أكثر قدرة على ممارسة الحياة بشكل إبداعي سواء تعلق الأمر بالعلوم الإنسانية أو التطبيقية، وقال: يا ليتنا نمتلك حرية اختيار المعلم والمادة وغيرهما.

وطالب الدكتور محمد الرواي بقيادة موحدة للتعليم العالي والعام ورأى أن هذه القيادة المشتركة من شأنها أن تخلق نوعاً من التناغم والتنسيق بين مخرجات التعليم العام التي تعد مدخلات للتعليم العالي، والتي تتحول بدورها إلى مخرجات تخدم المجتمع. وأضاف: لم نعد في حاجة إلى تخريج كتبة، ويفترض أننا تخلصنا من هذا النمط.

وحول سوء الفهم الذي تثيره عبارة “متطلبات السوق” قال الدكتور الرواي: الناس تعتقد أن الإبداع والمهارة والتطوير أمور مقتصرة على الجانب العملي، وهو أمر خطأ، فالجانب الأدبي نعني به في علاقتنا مع سوق العمل الفيلسوف والمفكر والباحث وواضع الخطط والاستراتيجي، وبشكل عام فإن الإبداع له علاقة بالشخصية، فالشخصية المبدعة في الجانب العملي تراها شغوفة بالأمور الأدبية مثل الفلسفة والشعر والرواية، وكذلك فإن المبدع في المجال الأدبي يقدر ويحترم كل إبداع في الجوانب العملية. وهذا ما نعني به الشخصية المبدعة التي هي بطبيعة الحال تشجع الآخرين على الإبداع في كل المجالات، وأضاف: وأظن أننا ينبغي أن نعمل على تغيير هذه المفاهيم الخاطئة والمغلوطة في أذهان الناس، وهو دور يجب أن تضطلع به وسائل الإعلام بالتنسيق مع الجهات المعنية في المجتمع.

وفي مداخلته حول محور غياب مبدعين لافتين في الساحة الثقافية المحلية قال: الأمر في حاجة فقط إلى قليل من البحث عن أصحاب الفكر والمنشغلين به في الإمارات، لأن هؤلاء بطبيعتهم لن يبحثوا عن الضوء، وعلى وسائل الإعلام أن تبحث عنهم، وأقول عن معرفة وثيقة: يوجد الكثير من الدرر الثمينة في بحر الإمارات وعلينا أن نغوص للكشف عنها.

من زاوية أخرى قال الدكتور حمد بن صراي أستاذ التاريخ في جامعة الإمارات في الحكم على الجامعة بأنها لا تعمل على تخريج نقاد وباحثين وتكتفي بتخريج الموظفين قسوة وعمومية: من يقول ان قسم التاريخ في جامعة الإمارات لا يخرِّج باحثين؟ من يدرس 82 ساعة في التاريخ كيف لا يمتلك حساً نقدياً تاريخياً يؤهله لأن يكون باحثاً؟ وأضاف: أرى أن الحكم جائر وعام، ربما ينطبق على بعض الأفراد الذين لا يمتلكون الحس النقدي ولا يهمهم امتلاكه، كما أن وجود بعض الأشخاص الذين يسعون إلى نيل الدرجات العلمية من ماجستير ودكتوراه لأغراض الوجاهة الاجتماعية، لا يعني أن الجميع يندرجون تحت المظهرية الاستهلاكية وبعيدون عن الانشغال النقدي.

وقال ابن صراي: نحن لا نعمل من أجل تخريج موظفين. خريجو قسم التاريخ الآن يعملون ليس فقط في مجال التدريس، وإنما في مجال الآثار وفي المتاحف ويسهمون بطريق غير مباشر في إثراء المعرفة بالتراث والتاريخ عبر تفاعلهم مع المجتمع ومن خلال خلفياتهم المعرفية الثرية التي تم تكوينها خلال فترة دراستهم في الجامعة.

وقال: الحراك الثقافي في الإمارات جيد ومتفاعل، وشهد تطورا مذهلاً خلال السنوات الماضية، وهو ظاهر في ما تحفل به الساح الثقافية من نشاطات وإصدارات. وقد استطاعت الإمارات من خلال منظومتها الثقافية أن تسهم بشكل فاعل في مسيرة الثقافة العربية والعالمية، ويكفيها أنها تدير أهم منظومة جوائز في عدد من التخصصات المهمة لا يلتفت إليها أحد في العالم بالتقدير، أذكر جائزة العويس، وجوائز الشارقة للإبداع، وجائزة ابن بطوطة للأدب الجغرافي، وغيرها، هل يُنكر أحدٌ أن ما تسهم به حركة النشر في الإمارات مثلاً يُسهم في تعزيز منظومة النشر العربي؟ وغير ذلك من أمور جوهرية لا يمكن وسمها بالمظهري أو العارض.

وفي ما يتعلق بعدم بروز أسماء لباحثين ومفكرين من أبناء الإمارات بعد ما يزيد على خمسين سنة من بدء التعليم النظامي بها، قال الدكتور حمد بن صراي: من الطبيعي أن يكون عدد المبدعين والفنانين والباحثين قلة، فهم نخبة المجتمعات، وهذا أمر طبيعي في كل مجتمعات العالم، هل تطلب أن يكون كل المجتمع من العلماء والباحثين والمبدعين؟ هم مميزون لأنهم قلة، وهم قلة لأنهم مميزون. وقال: جامعة الإمارات هي جامعة الرواد، ربما استطاعت الظروف المعاصرة التي يمر بها العالم ومحاولة أمركته الدؤوبة أن تؤثر في التكوين العام للشخصية المحلية كما أثرت في غيرها من الشخصيات، إلا أن الشخصية المحلية لديها الحس النقدي والجمالي الذي يؤهلها لأن تخرج الناقد واللغوي والعالم والباحث.

البيان اكتوبر ٢٠٠٥

روّاد وذكريات
د. محمد عبيد غباش :أفق مجلة الأزمنة كان عروبياً خالصاً (1)
ربما لن يحتمل البعض جملة من ذاكرة ضيفنا اليوم، وربما يكمن السبب في جرأته التي يعتبرها الكثيرون زائدة عن حدها، وربما يطال «المُحاور» من النقد ما يطال صاحب هذه الذاكرة، ولكن الذي يعرف شخصية وتاريخ الكاتب والإعلامي الإماراتي الدكتور محمد عبيد غباش، ربما لن يفاجأ من طرحه ومفاهيمه وذاكرته الحافلة بالحب لوطنه الإمارات، وعشقه العروبي الخالص، وفلسفته الإنسانية ذات الأخلاقيات الراقية، وهنا نفتح باباً من ذاكرة هذا الإعلامي الإماراتي الجريء والصحافي المحنك.
ولد الدكتور محمد عبيد غباش في دبي عام 1952م، نال البكالوريوس في الاقتصاد والفلسفة من جامعة «شيللر» اللندنية، ثم حاز الدكتوراه في العلوم السياسية من جامعة «ويلز»، يعمل حالياً أستاذاً للعلوم السياسية بجامعة الإمارات العربية المتحدة، رأس تحرير مجلة المجمع في دبي لعامي 73 ـ 1974م، ليعمل بعدها ولعامين أيضاً كمستشار في المكتب الدائم للإمارات لدى الأمم المتحدة، رأس تحرير مجلة «الأزمنة العربية» من عام 1979م ولغاية 1993م، أصبح مديراً عاماً لجريدة الفجر بين عامي 86 ـ 1988م، وفي عام 2003م أطلق موقع «الأزمنة العربية» على الإنترنت، يترأس منذ عام 2004م صحيفة «Days 7»، له عدة مؤلفات في مجالي الأدب والفكر السياسي: دائماً يحدث في الليل -رواية، من لا يعرف شيئاً فليكتب ـ نثر، مزون ـ رواية، سلطة أكبر من مطلقة.. مجتمع أقل من عاجز ـ قراءة في المشهد السياسي الخليجي، وغيرها من البحوث والدراسات.
* بداية نود أن نفتح صندوق الذاكرة، ونعود إلى البدايات منذ دخلت المدرسة وحتى حصولك على البكالوريوس؟
كما تعلم، منذ الخمسينات وحتى أوائل الستينات كان المجتمع يعيش حالة من شظف العيش، والفقر، والبؤس مما اضطر الكثير من العائلات الإماراتية للهجرة إلى الدول المجاورة خاصة الكويت وقطر بحثاً عن الرزق وطمعاً في تعليم الأبناء، وكانت أسرتي من هذه الأسر التي هاجرت إلى قطر حيث درست هناك حتى المرحلة الثانوية ما عدا السنة الأخيرة التي درستها في أبو ظبي، ونحن كإماراتيين نشعر بالامتنان للدول الشقيقة مثل الكويت وقطر التي احتضنتنا في تلك الفترة الصعبة،
وربما من حسن حظي أن التعليم في قطر كان جيداً وكانت فيها حركة تعليمية وقدر معقول من الحياة الثقافية لم يكن موجوداً في الإمارات، فالنهضة الحقيقية في الدولة بدأت مع تولي المغفور له الشيخ زايد «رحمه الله»، وقبل ذلك كانت العملية التعليمية ضعيفة وكذلك الثقافية لأن التعليم هو الأساس، ولعله من حسن حظي وحظ زملائي أننا تعلمنا في قطر وكسرنا العزلة التعليمية.
* هل تحضرك أسماء ممن هاجروا في تلك الفترة إلى قطر؟
ـ بالطبع، هناك أحمد خليفة السويدي، وسيف غباش، ومانع سعيد العتيبة وآخرون، لكن لا ينبغي أن أظلم البلد فالشارقة على سبيل المثال كانت أفضل من غيرها في التعليم، وفي دبي كانت مدرسة الأحمدية تقوم بدور مهم، وكانت علامات مضيئة في ظلمة دامسة، والطلاب الذين تقوم برعايتهم كانوا قلة بينما بقية المجتمع كان يعيش وضعاً صعباً.
* بعد عودتك من قطر هل التحقت مباشرة بالجامعة؟
ـ لا، بل أخذت وقتا أطول في دراستي الجامعية لأن مهنة الصحافة كانت تجتذبني أكثر من الدراسة والجامعة، في تلك الفترة بدأنا في دبي بمجلة «الأهلي» وكان يصدرها النادي الأهلي، وبعد الأهلي توليت مجلة «المجمع» التي استمرت سنتين ونصف تقريبا، وقد حرّكت الساحة الثقافية في البلد وكان لها أثر كبير حيث أنها كانت المرة الأولى التي تدخل إلى المجتمع فكرة الصحافة المختلفة أو المخاصمة للمرافق الحكومية، فالصحافة عادة «تطبل وتزمر».* يعني أنها كانت مشاكسة قليلاً ولكنها لم تكن حدية؟
ـ بلى كانت مشاكسة وحدية ولذلك أغلقت، كان إعلاما غريبا لم تعتده البيئة كما أننا كنا شبابا مليئين بالحماسة التي كانت تجعلنا نندفع أحيانا بشكل مفرط.
* قبل هذه المرحلة - أي عام 1973 - كانت المنطقة العربية تعج بالتيارات السياسية والاتجاهات والميول الفكرية، أيها كان يجتذبك أكثر؟
ـ تلك المرحلة كانت غنية جدا، وخصبة، الآن لدينا إعلام واسع وكثير لكنه يفتقر إلى تلك الخصوبة التي تميز بها إعلام الستينات، كانت هناك أسماء كثيرة، مفكرون، سجالات، معارك ثقافية ولا شك أن السبب في هذه الخصوبة هو وجود الحرية، فالحرية هي التي تحتضن الفكر والثقافة وتغنيهما، أما الآن فإن رحلتي الفكرية والعقائدية تغيرت كثيراً بعد أن دخلت في عواصف وزوابع لا أول لها ولا آخر،
لقد تأثرنا - أقصد جيلنا - كثيرا بهزيمة حزيران، كانت أهم شيء أثّر في حياتي في فترة الشباب، وقد جعلتنا نرتد بشكل عنيف ونرفض الحركة القومية والناصرية وهنا احتضنتنا الحركات الإسلامية والإخوان المسلمون على وجه التحديد، حيث كان فكر الإخوان هو البديل للفكر القومي الذي هزم وحكم آمالنا الكبيرة التي بنيناها،
كنا صغارا وتبنينا فكر الإخوان المسلمين بشكل عاطفي، سريع، عجول، وغير نقدي، وقد ساهم في هذا ما لاقاه بعضهم من الاضطهاد في السجون مما جعلنا نتعاطف معهم، ويمكنك القول أنني كنت في هذه المرحلة من الأصوليين، لكنها لم تستمر طويلا بالنسبة إلي، وبين 1967 إلى 1973 عشت أزمة فكرية،
وقد جعلتني المواجهة مع إسرائيل أعيد النظر في مفهوم الإخوان السياسي، فوجدته ضيقا لا يحتوي كل الخصوبة العربية التي نعيشها، في تلك المرحلة انجذبنا أيضا إلى الثورة الفلسطينية التي مثلت انبعاث شعب شرد وشتت وعدنا - للأسف ـ ننجذب إلى التيارات القومية من جديد، حيث عادت لها الروح في 1973.
* ككاتب، هل كانت إرهاصات الكتابة ردة فعل على ما جرى بعد الهزيمة؟
ـ أعتقد أن الهزيمة أثرت على جيلنا كله، وظهر هذا التأثر في مظاهر متباينة منها التحول إلى الأصولية الذي جاء كردة فعل أكثر مما كان قناعة بما فيها من منطق متماسك، وربما نكاية في الفكر القومي أكثر منها إعجابا بالفكر الأصولي.أيضا، وبصراحة، كان هناك مفصل خطير هو احتلال الجزر حيث شعرنا بالعار لأن جيراننا يعتدون علينا ويلتهموننا لأننا دولة صغيرة، كان هذا أيضا من الأمور التي شكلتني وجيلي في ذلك الوقت.
* هل ثمة كتابا معينون ما زالوا في ذهنك كنت تأثرت بهم في تلك الفترة؟
ـ على مستوى الكتابة كفن كنت ولا أزال حتى اللحظة أحمل إعجابا هائلا لأحمد زكي رئيس تحرير مجلة العربي، حتى المجلة نفسها كانت المطبوعة الأساسية في حياتنا ومثلت نوعاً من الاعتدال بين الفكر القومي والديني والفكر المتحرر، كانت خلطة ما أعجبتنا في تلك المرحلة. أما على مستوى الكتاب فتأثرنا بالعملاقين طه حسن والعقاد، وكنت مغرما بالمنفلوطي.
* هذا في مجال الأدب، فماذا عن مجال الفكر؟
ـ لقد تم اجتياحنا بموجات من التيارات الفكرية في الستينات منها الفكر القومي ورموزه معروفة، فكر البعث والناصريين، أما الإسلامي فهناك سيد قطب، وفي السبعينات اجتذبتنا الماركسية، ولعل ما جذبنا فيها أن الدول الشرقية كانت مع قضايانا بينما كان الغرب ضدها، وربما لهذا السبب أو من هذه الزاوية كنا ماركسيين وليس بسبب قناعتنا أو فهمنا للفكر الماركسي نفسه،
كما أن المسألة الاجتماعية كانت من بين العوامل التي جذبتنا إلى الماركسية حيث يعاني الوطن العربي من الفقر والتخلف وغيرها، لكن هذا لم يستمر طويلا لأننا رأينا الاستبداد والتسلط وفظائع مرحلة ستالين، ناهيك عن السفر إلى الدول الشرقية والغربية ورؤية ما بينهما من فوارق على مستوى الحرية الشخصية،
ففي الدول الشرقية كانت الأمور تسير بمنطق «أينما كنتم يدرككم الخوف» بينما في الدول الغربية رأينا الحكام يضربون بالبيض والبندورة ولا أحد يقتل أو يعدم أحدا وكان هذا بلا شك شيئا جاذبا ومدهشا، ما أريد قوله من كل هذا أننا مررنا على الكثير من الأفكار والتيارات ومن الغريب أننا توازنا بعدها.
* خطأ فادح
* نعود إلى الإعلام، هل كانت المطبوعات الصادرة في ذلك الوقت ترضي طموحك؟
ـ أعتقد أن تلك المطبوعات ارتكبت خطأ فادحاً، ومارست نوعاً من الغرور والتعالي ضدنا نحن الكتاب الشباب، وربما يعود ذلك إلى طبيعة العمل الصحافي وتركيبته الخاصة، فالذين يعملون فيها يعملون لفترة طويلة، وربما يكونون مستنزفين أو واقعين تحت ضغوط نفسية عالية لا تتيح لهم الوقت لكي يهتموا بالطلبة أو الكتاب الجدد، المهم في الأمر أن هذه المطبوعات في المحصلة والوضع ما يزال حتى هذه اللحظة لم تخلق كتاباً، والكاتب الشاب لا يمكن أن يظهر في جريدة، لأنه لا يوجد مناخ يرعاه، بمعنى أنه يجب أن يأتي إلى الجريدة (كاتب وجاهز)، وفي هذه الحالة يفتشون عنك ويجتذبونك لكن يجب أن تتعلم حرفة الكتابة في مكان ما، لكن أين؟ لا تعرف
* بالنسبة لمجلة المجمع، كيف كانت تطبع؟
ـ كانت بحجم (A4) كذلك مجلة الأهلي، وكنا نطبعها في المطابع التجارية، ولأن هذه المطابع كانت طبيعتها تجارية كانوا يجربون فينا التصاميم، نظراً لأن طباعتهم أكثرها فواتير و(ليتر هيد) وغيرها.
* هل تذكر أحدا من زملائك في تلك الفترة؟
ـ بالطبع، أستاذنا عبد الغفار حسين كان من أركان مجلة المجمع، وعبد الخالق عبد الله في الأهلي.
* هل كان للمجلة صدى في المجتمع؟
ـ في الداخل نعم؛ وكان الصدى كبيراً، لكن في الخارج لا، وذلك لأنها مثلت رؤية مختلفة عن الإعلام الرسمي، أذكر أننا تابعنا في أحد أعداد مجلة المجمع تغييراً وزارياً في مجلس الوزراء، وتحدثنا عن أن بعض الوزراء يبذلون جهودا كبيرة لتثبيت أنفسهم، وكان الغلاف عبارة عن كاريكاتير يبرز الكراسي مربوطة بمسامير وهم يربطون أنفسهم بها،
كان هذا شيئاً مختلفاً وغير مألوف حيث كان الإعلام الرسمي يحرص على تثبيت الشرعية السياسية للدولة والنظام السياسي، ففي ذلك الوقت كانت الدولة ناشئة وحديثة وكانت تحتاج إلى تثبيت شرعيتها كدولة مما جعل الحديث عن المنجزات يعلو على كل شيء.

* تجربة مدهشة

* بعد ذلك عملت في الأمم المتحدة، وأقمت ثلاث سنوات في الولايات المتحدة الأميركية التي تتميز بمطبوعاتها الجيدة، هل أثرت بك؟
ـ بالتأكيد، وأهم شيء في الإعلام الأميركي هي الحرية، كانت تجربة مدهشة بالنسبة إلينا، أيضا في الإعلام المرئي رأينا شيئا لم نعهده، هذا عظَّم قيمة الحرية بمعنى أن الحرية ليست شيئاً يخيف أو يهدم أو ينبغي الحذر منه بل العكس، ينبغي الاستماع إلى الرأي الآخر، فبدون هذا الرأي قد تكون على ضلال لفترة طويلة، صحيح أن (الأنا) قد تجرح لأول وهلة من النقد المعارض لكن في نهاية المطاف تتحقق الفائدة ويصحح المرء خطأ ربما يؤدي إلى كارثة. وكان هذا شيئاً مدهشاً بكل المقاييس.
النقطة الثانية هي احترام المواطن العادي، نحن في ثقافتنا لا نحترم الإنسان العادي، حتى مصطلح العامة أو العوام هو مصطلح نخبوي يستثني الناس ويضعهم في مرتبة اقل. في الغرب هناك قيمة لكل نخبة لكنها لا تعيش في الفراغ بل تعمل على الارتقاء بالناس. على سبيل المثال، أنا درست في الجامعة على يد أساتذة يهود صهاينة واصطدمت معهم وكانت لي مواقف حادة لكن لم يرسبوني في المادة، لم ينتقموا مني في الامتحانات فقط لأنني عربي وهذا أيضاً كان شيئاً غريباً بالنسبة لي.
* (الأزمنة العربية) شكلت علامة فارقة في الإعلام الإماراتي، رغم أن الكثير من المواطنين الآن لا يعرفون عنها شيئا إلا ربما عبر الموقع الالكتروني، كيف نشأت الأزمنة، ومن أهم الأشخاص الذين رافقوك في التجربة؟
ـ كانت الفكرة موجودة في بالي منذ اليوم الأول لي في الولايات المتحدة للدراسة، حيث ان إغلاق مجلة (المجمع) كان إجراء حكومي، فرأينا أن نعيد إصدار مطبوعة صحافية إعلامية أخرى ونتعلم من الدروس التي مررنا بها والأخطاء التي ارتكبناها في الماضي،
كنا نريد عملا نكتب فيه بقدر عال من الحرية ونتفاعل به مع بيئتنا وننهض من خلاله بمجموعة من الشباب الذين لا يجدون مواقع يكتبون فيها. ولأننا لم نكن قادرين على القيام بعمل خيري اضطررنا أن نضعها في نموذج تجاري بحيث يدعمها القارئ. عندما أردنا تأسيس المجلة (19 رأينا أن تكون ثقافية وأن نبتعد عن الجانب السياسي نظرا لأن المنطقة كانت في حالة غليان سياسي.


حوار ـ محمد الأنصاري
رواد وذكريات

د. محمد عبيد غباش:أزمة الأزمنة كانت تكمن في وزارة الإعلام
ربما لن يحتمل البعض جملة من ذاكرة ضيفنا اليوم، وربما يكمن السبب في جرأته التي يعتبرها الكثيرون زائدة عن حدها، وربما يطال «المُحاور» من النقد ما يطال صاحب هذه الذاكرة، ولكن الذي يعرف شخصية وتاريخ الكاتب والإعلامي الإماراتي الدكتور محمد عبيد غباش، ربما لن يفاجأ من طرحه ومفاهيمه وذاكرته الحافلة بالحب لوطنه الإمارات، وعشقه العروبي الخالص، وفلسفته الإنسانية ذات الأخلاقيات الراقية.
وهنا نفتح باباً من ذاكرة هذا الإعلامي الإماراتي الجريء والصحافي المحنك. ولد الدكتور محمد عبيد غباش في دبي عام 1952م، نال البكالوريوس في الاقتصاد والفلسفة من جامعة «شيللر» اللندنية، ثم حاز الدكتوراه في العلوم السياسية من جامعة «ويلز»، يعمل حالياً أستاذاً للعلوم السياسية بجامعة الإمارات العربية المتحدة، رأس تحرير مجلة المجمع في دبي لعامي 73 ـ 1974م،
ليعمل بعدها ولعامين أيضاً كمستشار في المكتب الدائم للإمارات لدى الأمم المتحدة، رأس تحرير مجلة «الأزمنة العربية» من عام 1979م ولغاية 1993م، أصبح مديراً عاماً لجريدة الفجر بين عامي 86 ـ 1988م، وفي عام 2003م أطلق موقع «الأزمنة العربية» على الإنترنت، يترأس منذ عام 2004م صحيفة «ف؟َّ 7»، له عدة مؤلفات في مجالي الأدب والفكر السياسي: دائماً يحدث في الليل -رواية، من لا يعرف شيئاً فليكتب ـ نثر، مزون ـ رواية، سلطة أكبر من مطلقة.. مجتمع أقل من عاجز ـ قراءة في المشهد السياسي الخليجي، وغيرها من البحوث والدراسات.
* سألنا محمد عبيد غباش في مستهل الحلقة الثانية عن مجلته بالقول لماذا (الأزمنة) لو حذفنا النون من الاسم لأصبح الأزمة ما دامت ظهرت في وقت الأزمات؟
ـ الأزمنة اسم صحافي، أوائل المطبوعات في العالم كانت تسمى بالأزمنة أو الأوقات. كما أننا حاولنا تثبيت هويتنا العروبية وأننا لسنا مطبوعة محلية أو دينية وإنما مطبوعة لها أفق قومي؟
* من الأشخاص الذين عملوا فيها عبد الله الشرهان وشوقي رافع؟ من أيضاً؟
ـ أشخاص كثيرون لا أستطيع أن أحصيهم، أخشى أن أنسى أحدا، عدد ضخم من الموجودين على الساحة شاركوا في الأزمنة، عبد الحميد احمد، أمينة بوشهاب، مريم بوشهاب، حبيب الصايغ، حمدة خميس، ظبية خميس، احمد راشد ثاني، مريم جمعة فرج، رأفت السويركي وآخرين كلهم كانوا من بناة الأزمنة.
* أين كنتم تطبعونها؟
ـ في مطابع المجلة نفسها، قبل أن نصدرها بنينا مطبعة وذلك بسبب تجاربي السيئة مع المطابع التجارية.

* ماذا عن التقنيات الطباعية، الآلات من أين جاءت، من بريطانيا أم فرنسا؟
ـ من عدة دول، أجهزة الصف الالكتروني من بريطانيا، وذهبت أنا إلى هناك وتدربت على صيانة المطبعة، وأجهزة الاوفسيت من سويسرا، وآلة القطع هندية.
* ماذا عن الكوادر؟
ـ وضعنا المالي كان متواضعاً ولم نكن نستطيع أن نحضر الكفاءات مع ذلك لم يكن مستوى المجلة من الناحية الفنية سيئاً، وكان إخراجها رفيعاً وتميزت بنوع من الخصوصية.
* كم عدد النسخ التي كنتم تطبعونها؟
ـ تقريبا وصلنا إلى حوالي 15 ألف نسخة، وكانت توزع في الدولة وفي خارج الإمارات في الكويت، لبنان، اليمن، ليبيا، جاء السفير الليبي وعمل اشتراك بحوالي 500 نسخة لأن مؤسسة التوزيع عندهم حكومية.
* هل لقيت المجلة إقبالاً من العالم العربي؟
ـ إقبال كبير، لكن وضعنا المالي كان صعباً وكنا دائماً في أزمة مثل جميع المجلات الثقافية والإعلامية المستقلة.
أزمة الأزمنة
* يرى البعض أن الجرأة والحدة التي كانت تميز الأزمنة هي السبب في إغلاقها، ألا تعتقدون أنها كانت ستستمر لو خففت قليلا من الحدة التي عالجت بها بعض القضايا الحساسة؟
ـ ربما تستمر لكنها في هذه الحال لن تكون الأزمنة، ربما تكون مجلة (كذا)، أنا اعتقد أن هذا الكلام بعيد عن الصحة، ومن يقرأ الأزمنة الآن لن يجد فيها ما يستدعي إغلاقها، ولو كان سمو الشيخ عبد الله بن زايد وزيرا للإعلام في ذلك الوقت لما أغلقت المجلة. المشكلة في تقديري كانت تكمن في وزارة الإعلام،
القانون يفصل على مقاس الموجودون في الوزارة، ولو كان الفريق الموجود حاليا في وزارة الإعلام موجودا في ذلك الوقت لما منعت الأزمنة ولا أي مطبوعة أخرى، ولما اضطهد أي إعلامي، لكن الخراب الأكبر كان في وزارة الإعلام في ذلك الوقت، المشكلة كانت تكمن في الوزارة.
* عندما عرفتم بخبر إيقافها، الم تحاولوا التوسط لمنع صدور القرار؟
ـ لم نعرف إلا بعد صدور القرار. كان قراراً إدارياً.
* ألم يكن للظروف الإقليمية دور؟
ـ ربما لم يكن الوضع الإقليمي مشجعاً، حيث كان قد مر عام على الحرب الإيرانية العراقية، ونشأ مجلس التعاون، وبيروت أيضا كانت تعاني ويلات الحرب والاجتياح الإسرائيلي، لكن المصيبة الكبرى كانت في وزارة الإعلام لأنها هي القيم، هي التي تعطي الرؤية لصناع القرار وهل تجاوز هذا العمل أو ذاك الحدود أم لا، وربما كان الموجودين في الوزارة في ذلك الوقت تعوزهم الأمانة والغيرة على صالح البلد.
* ما هو الموقف الذي بقي في ذاكرتك عن تلك المرحلة سواء كان طريفا أو محرجا؟
ـ (يضحك)… الطرافة أننا لم نكن جاهزين للعمل العادي، على سبيل المثال كنت أجد معاناة كبيرة في الكتابة، وكل مقالة اكتبها أكون متأزماً. كان الزملاء يتندرون علي وكيف اكتب وأنا متأزم. أيضا كان لدينا مصور إنجليزي اسمه بيتر، كان نظره ضعيفا لكن صوره كانت جميلة، والسبب انه كان يحسبها بالرياضيات، بقياس المسافة والضوء وكانت «تضبط معاه». أيضاً كان لدي معلن يقول لي عندما تريد إعلاناً اتصل بي أنت ولا ترسل لي «الغوريلا»، الناس ترسل صبايا جميلات وأنت ترسل لي شخصاً أخاف منه، يقصد المراسل.
* أفق عربي
* بعد سنتين وفي عام 1983 صدرت المجلة من لندن ثم انتقلت إلى قبرص ثم إلى بيروت وحتى 1996، وكنتم تعالجون بعض الأمور أو الهموم التي يطلق عليها عادة حساسة وفيها الكثير من الجرأة، الم يكن لديكم خوف من التصدي لهكذا عمل جريء؟ ولماذا الإصرار على إصدار المجلة رغم أنها لم تكن تدخل إلى هنا إلا في حدود ضيقة؟
ـ صحيح أننا من الإمارات لكن أفق المجلة كان عربياً، كان لها دور في الكويت مثلاُ عندما أغلق مجلس الأمة الكويتي، كذلك كان لها دور في السودان مع تعاظم استبداد النميري، وكان لها كذلك دور في القضية الفلسطينية والتخبط الذي عاشته الثورة الفلسطينية.
بمعنى، يجب أن لا ننسى أن المجلة اسمها الأزمنة العربية وليس الأزمنة الإماراتية، رغم وجود محور أساسي محلي كنا نعالجه نحن ككتاب مواطنين لكن العبء والهم الأساسي عروبي. أنا من الأفراد الذين يؤمنون أننا مهما فعلنا في دولتنا ـ الإمارات ـ إلا أن هناك أموراً لا يمكن التصدي لها ضمن إطار الدولة الوطنية وينبغي أن تتم على مستوى عربي، ولا تفلح فيها الجهود إلا على هذا المستوى الواسع.
* الرسمة التي بجانب عنوان المجلة، ما هي؟
ـ هذه رسمة (ضبع) وسبب اختياره يعود إلى أن الأزمنة العربية صدرت في وقت كان يتم فيه قتل بعض الصحافيين أو اغتيال بعض الدبلوماسيين، وكانت بعض الدول تمارس القمع ضد مواطنيها وأحيانا ضد الدول الأخرى، حاولت أن ارمز لهذا الزمن البشع استقر الرأي على اختيار هذا الحيوان الذي يقتات على الجيف أو الجثث، هو نوع من الاشمئزاز من الزمن الذي كان سائدا.
* متى تنتهي صلاحية مثل هذا الرمز وسبب وجوده؟
ـ عندما ينتهي مثل هذا الزمن ونعيش الزمن الجميل.
* هل تعتقد أن هذا الزمن سيأتي؟
ـ أتمنى ذلك وأنا مؤمن به، واعتقد انه سيأتي يوماً ما.
* بدأتم في لندن وانتهيتم بها، كم كنتم تطبعون وكيف تصل إلى الإمارات؟
ـ كنا نطبع ألف نسخة وكانت تصل باليد أو بالإهداء أو بالبريد وبعض الذين كانوا يسافرون كانوا يحضرونها معهم.
* هل تعرضتم للمساءلة
ـ تعرضنا لبعض المساءلات لكن تجاوزناها.



محمد الأنصاري
رواد وذكريات

د. محمد عبيد غباش :الأزمنة الإلكترونية تحملت عبء رعاية كتّابنا الشباب - 3
نكمل اليوم مشوارنا مع الكاتب والإعلامي الإماراتي د. محمد عبيد غباش، لنتعرف معه عبر رحلته في الذاكرة، على التطورات الإعلامية التي تلت توقف مجلته «الأزمنة العربية» عن الصدور ورقياً عام 1996 في لندن.
ونستعيد معه بعضاً مما تبقى في ذاكرته المليئة والجريئة في آن معاً، يوم كان مديراً عاماً لجريدة «الفجر»، ثم نعرج على تجربته في إصداره المثير للجدل «أحوال»، ونتعرف أيضاً على بعض أحوال ما يراه من إعلام اليوم:
* توقفت الأزمنة منذ 1996 عن الصدور بشكلها الورقي حتى عادت إلى الصدور بشكلها الالكتروني على الانترنت، والموقع ثري ومليء بالموضوعات المتنوعة، هل تعتقد أنه كان متنفساً لمجلة الأزمنة العربية؟
ـ من دون شك، والمتنفس جاء من أمرين: الأمر الأساسي الجوهري هو السياسي حيث أننا في الانترنت نكتب وفق معايير نحترمها ونحرص عليها، هناك ضوابط في الكتابة ولا نكتب كما يحلو لنا، نحترم الحدود لكن لا نحترم اللامعقول بمعنى انه لو كانت الأزمنة مطبوعة ورقية هناك حدود تفرض علينا الالتزام بها.
الجانب الأخطر والاهم هو الجانب المالي، بمعنى أننا لو كنا ننتجها بهذه الضخامة سنرتهن إلى الإعلان، وهذا صعب لأن الأزمنة بطبيعتها تنتقد بعض الدوائر والبلديات وأداء المؤسسات أي أنها تثير بعض المشاكل، من هنا يخشى المعلن أن يظهر إعلانه في مادة نقدية فيقع تحت طائلة الغضب.
ـ هل هناك إقبال وتجاوب مع الأزمنة في الإنترنت؟
ـ نعم، ويمكنك رؤية ذلك، لكن يبقى أن العدد اقل من الطموح، فعدد الزوار شهرياً حوالي سبعة آلاف زائر، أي اقل مما كنا نوزع عندما كانت الأزمنة ورقية حيث وصلنا إلى 15000 وهذا قبل عشرين سنة، لكن علينا أن ننتبه إلى أن الزمن تغير، وهناك الكثير من المطبوعات في الإمارات وليس كما كنا في السابق، كنا منفردين لكن هذا قدرنا.
ـ ماذا لو اتيحت الفرصة الآن لإصدارها كنسخة ورقية؟
ـ هذا الأمل هاجس مزمن بالنسبة لي، لكن اعتقد أنني عقلاني بما يكفي لكي لا أقدم على مغامرة مالية، لان العبء الذي تحملناه بعد الإغلاق ولوقت طويل كان صعباً جداً وباهظا وتحملنا لسنوات عديدة ما لا يحتمل.
من جهة أخرى للأزمنة دور أو وظيفة رئيسية هي رعاية الكتاب الشباب، وهذا ما نقوم به فإذا قامت به المطبوعات الورقية بالشكل المعقول ربما لا يكون هناك مبرر للأزمنة الألكترونية. كان هذا دور الأزمنة منذ البداية وخرجت عددا من الكتاب المكرسين الآن، هذا ما نقوم به عبر الأزمنة الالكترونية وهذا هو مبرر وجودها إلى حد كبير.
* عملت مديراً عاماً لجريدة «الفجر» منذ عام 1986 إلى عام 1988م وفي الوقت نفسه كانت الأزمنة تصدر من الخارج، كيف كنت توفق بين المهمتين؟
ـ لم أكن بحاجة إلى مثل هذا التوفيق لأن أزمنة الخارج كان يرأسها في ذلك الزمن غانم غباش زرحمه اللهس وحتى ككتابة، أما عملي في الفجر فكان إدارياً، كمدير عام كنت أرعى التحرير لكي تأخذ الجريدة موقعاً في الساحة لكن التجربة لم تطل.
ـ ما هي العقبات التي وجدتها؟
ـ العقبة الرئيسية هي العقبة نفسها التي أغلقت الأزمنة، وهي وزارة الإعلام التي كانت تخنق العمل الخاص، أو تحاول تجييره أو تحويله كصدى لإعلامها هي، وهذا يتعارض مع طبيعة الإعلام الخاص الذي ينبغي أن يكون مستقلا.
فكانت هذه المطبوعات غير مستقلة ليس لأن أصحابها لا يريدون أن يكونوا مستقلين بل لان الوزارة ـ آنذاك ـ تريد منهم أن يكونوا أتباعا. في الوقت نفسه كانت وزارة الإعلام هي نفسها تصدر مطبوعة تنافس وتضرب فيها المطبوعات الأخرى، هذا من جانب ومن جانب آخر ألقى وضع الحرب الإيرانية بظلاله على الإعلام كله.
وكان المطلوب من الإعلام أن يؤدي دوراً أنا شخصياً لم أكن أستسيغه، وقد كانت الأزمنة صوتاً نادراً في الإعلام آنذاك، حيث كنا نقف إلى جانب الثورة الإيرانية في وجه صدام حسين مبدئياً، ولم استطع تغيير هذه الرؤية عندما ذهبت إلى الفجر، ولم تكن المعطيات المتوفرة للفجر تسمح لها إلا بأن تكون ضمن التوجه الإعلامي العام.
ـ تعرضتم لمساءلة وتهديد وبعض الكلام من قبل بعض الناس الذين انتقدوا الأزمنة، هل بقيت بينكم الصلة الاجتماعية؟
ـ أنا بطبعي لا اقطع الصلات مع الآخرين حتى في حال اختلافهم معي في الرأي، هذا شيء والصلة الإنسانية شيء آخر، لكن المشكلة في نمط الحياة التي نعيشها في الوقت الراهن والتي تفرق بين الناس، أو لا تسمح باللقاءات كما في السابق وليس بسبب اختلاف وجهات النظر. على سبيل المثال أنا اعمل في العين في الجامعة وآتي إلى دبي يومين لا أجد الوقت لرؤية الناس.
ـ هل هناك مقالات لقيت تجاوباً وتقبلتها الإدارات المختلفة أم كنتم تواجهون صداً ورفضاً باستمرار؟
ـ بالعكس؛ أغلب المقالات وجدت تجاوباً ولذلك كان للأزمنة دور بناء في تحسين الحياة العامة، والموضوعات التي أثارت الحساسية قليلة وتكاد تعد على الأصابع، ولم تكن بتلك الحدة التي تتخيلها، المشكلة تكمن في أن أي شيء مهما صغر يمكن أن يبدو كبيراً إذا لم تكن الحرية مألوفة. الآن إذا عدت إلى الأزمنة تجده كلاماً عادياً وربما يكتب في أي مطبوعة، لكن الزمن هو الذي تغير.
ـ تجربة مجلة «أحوال» وجدت استغراباً من بعض الناس، هناك شيء بين أزمنة وبين أحوال التي جاءت تجربة ساخرة ولاذعة ومشاكسة، هل هي نسخة عن الأزمنة لكن محلية؟
ـ أنا أحاول قدر ما أستطيع أن لا اكرر التجارب فكل مرحلة لها طبيعتها، بالنسبة لأحوال تختلف بشكل جوهري عن الأزمنة في عدة أمور هي: أنني حاولت أن أجعلها تنتمي إلى عائلة روز اليوسف وصباح الخير في قوة الكاريكاتير، الآن لم يعد الكاريكاتير يلعب هذا الدور، كان الكاريكاتير هو الملك وهذا لم يكن موجودا في الأزمنة.
الحجم أيضا مختلف. كما أنها تعتمد المقالة وليس التحقيق الصحافي كما في الأزمنة، والمقالة قالب كتابي له خصوصيته ويمثل رأي الكاتب أما التحقيق فيمثل آراء الناس. من هنا اعتقد أن «أحوال» لها طعم ولون ونكهة وخصوصية تختلف عن الأزمنة. إلا أن هناك شيئاً مشتركاً بينهما هو أن كلتيهما نقديتان.
ـ ما الذي دفعك إلى إصدار «أحوال»؟
ـ لا بد من العودة إلى حكاية أحوال للإجابة عن هذا السؤال، المسألة كلها بدأت بناء على حماسة الأخ منصور عبد الرحمن ـ رئيس تحريرها الآن ـ الذي كان يرغب في إصدار مجلة منوعات وليس مجلة سياسية في الإمارات.
ولم أكن متحمساً لهذا لأنني بعيد إلى حد ما عن هذه المجالات، فأنا ادرس السياسة واهتماماتي سياسية لكنني تقدمت بطلب الترخيص، سرت معه بالفكرة ودخلنا المغامرة، وكان هو الممول الرئيس لها وتحمل العبء الأكبر في إنشائها، ولهذا شعرت انه ينبغي أن يكون له الدور الأكبر، وبعد سنة ونصف شعرت انه لم يعد لدي شيء آخر أعطيه، كما أنني ادرس العلوم السياسية فهل أصدر مطبوعة غير سياسية.
ـ عرفت بالفكر الجاد والصحافة الجادة الم تجد انتقادات من المقربين عندما قمت بإصدار مجلة فنية بعيدة عن اهتماماتك السياسية؟ لماذا (7 Days) التي أسستها وترأسها الآن، ومن يكتب فيها؟
ـ المفارقة أن تجربة «7 Days» أخطر لأنها جماهيرية، فالمجلة جاءت في قالب فني وضد الجدية التي اعتدتها. اعتبر نفسي تلميذاً فيها وفي كل يوم أتعلم فيها شيئاً جديداً رغم أنني رئيس تحريرها، فريق عمل المجلة إنجليزي الجنسية يحاولون أن ينقلوا لنا قالباً تقنياً مرتبطاً بصحف «التابلويد» اليومية الشعبية في بريطانيا، هذه التجربة نقيض شخصيتي، جاد وصارم، لكن اعتقد أن تنوع الحياة يجعل لهذا مكان ولذاك مكان.
لا أحد منهما يلغي الآخر أعجبني في «7 Days» أن أولادي الذين لا يحبون القراءة تستهويهم الجريدة، هذا الجيل الشاب تحت العشرين سنة يستهويهم هذا النوع من الصحافة، وأعتقد انه يمكنني الاستفادة كثيراً من هذه التجرية في حال كانت هناك فكرة إصدار شيء ما مشابه في الإمارات، فالصحافة الصارمة لم تعد تجذب القراء بل يهربون منها.
ـ هل لها مكاتب في الخارج؟
ـ لا؛ موجودة في الإمارات فقط.
*الشطرنج واستخدام الذكاء
ـ عملت رئيساً لاتحاد الإمارات للشطرنج، وكنت نائباً لرئيس الاتحاد الدولي للشطرنج عام 1994م، وربما يبدو اهتمامك بالشطرنج مستغرباً قياساً بشخصيتك واهتماماتك، كيف تنظر إلى هذا الأمر؟
ـ على الأقل الشطرنج لعبة فيها نوع من التفكير واستخدام الذكاء، لكن الكثيرين يستهجنون حبي لكرة القدم ويتساءلون كيف تضيع ساعتين من وقتك وأنت تراقبها. اعتقد أننا بطبيعتنا أصبحنا صارمين في حياتنا، ونؤطرها في إطار واحد. لكن ينبغي أن لا ننسى أن في داخل كل منا طفلاً يحب اللعب، سواء لعب الشطرنج أو الكرة أو غيرها من الألعاب، أما بالنسبة للشطرنج فالمسألة مختلفة، فأنا اعتقد أن هذه اللعبة مهمة جداً.
وينبغي أن تكون موجودة في حياتنا اليومية، وان تعلم لأطفالنا منذ وقت مبكر وذلك لأسباب عدة: الأول أن الدراسات العلمية أثبتت أن الأطفال الذين يلعبون الشطرنج يتميزون بمدارك عقلية أكثر اتساعاً وتحصيلهم الدراسي أفضل، ما يعني أنها تدريب مناسب لتحقيق تحصيل دراسي أفضل.

والثاني أن الشطرنج بالنسبة لي كانت البديل عن الكحول أو الأدوية المهدئة، لأنني في حالة الضيق كنت اذهب لألعب دور شطرنج فأنسى ما كنت فيه من الضيق، وهي بهذا المعنى مفيدة في الوقاية من بعض المخاطر، أضف إلى ذلك أننا نحن العرب ساهمنا ولعبنا دوراً كبيراً في هذه اللعبة ونشرها في العالم، وإسهام أجدادنا كان عالياً في هذه اللعبة.
ـ نأتي إلى الإنتاج الأدبي لماذا لم توله العناية اللازمة؟
ـ لأن اليوم يتكون من 24 ساعة فقط، والأعباء كثيرة، الأبوة تتطلب وقتاً، والعمل الأكاديمي يتطلب القراءة والبحث. نمط الحياة الذي نعيشه لا يجعل الإنسان معطاء في العمل الأدبي لان العمل الأدبي الحق يحتاج إلى التفرغ وهو أمر لا تتيحه لنا مجتمعاتنا.
ـ انتقدت في بعض مقالاتك عدم تفرغ المبدعين، وتحدثت عن أن الوظيفة تأخذ الكثير من وقت المبدع أو الأديب أو الكاتب، هل ينطبق هذا عليك أيضا؟
ـ أنا أتحدث بشكل عام وليس عن نفسي، بالنسبة لي العمل الأكاديمي مهم، وأنا أجد نفسي في هذا العمل والعمل الأدبي في منظوري ليس أهم من العمل الأكاديمي، لكنني أتحدث عن الأديب أو الكاتب المسرحي أو الروائي حين يعمل في وظيفة بعيدة تماما عن مجال إبداعه في الحسابات مثلا، ويسفح ثماني أو عشر ساعات من وقته في الوظيفة.

ما الذي يبقى له من الوقت لكي يكتب ويبدع، ما يحدث عندنا أن الأديب أو المبدع مستهلك في العمل الوظيفي ولا يجد إلا وقتاً ضئيلاً للكتابة والإنتاج الأدبي، ولهذا كنت أتمنى أن تخصص وزارة الإعلام كل سنة مجموعة من الوظائف لفنانين تشكيليين ومسرحيين .
وكتاب وشعراء وتعينهم على ملاكها وتحاسبهم على الإنتاج مع وجود ضوابط بالطبع، لو كان هذا متاحاً لوجدت الكثير من العمل الإبداعي والإنتاج الأدبي. في الغرب مثلا، هناك تفرغ كامل للكاتب والجمهور يحضنه لأن الروائي في الغرب إذا كان ناجحاً ليس لديه مشكلة، لكن مجتمعاتنا لا تقرأ والأمية فيها كبيرة، لهذا يفترض أن تقوم الحكومات بهذا الدور.
* قلة الامكانيات
ـ عادة ما تقابل قضية التفرغ بالاستهزاء والسخرية من الدول الأخرى ربما بسبب الفقر وقلة الإمكانيات، لكن في دول الخليج التي تتمتع بمستوى دخل عالي ربما يبدو الأمر غير مقبول، هل تعتقد أن دعوتك يمكن أن تتحقق؟
ـ أتمنى ذلك، وبصراحة لا أفهم لماذا؟ ولا أعرف لماذا لا يتم تفريغ بعض المبدعين للإنتاج الإبداعي رغم أهمية هذا الأمر. في تقديري أن سمو الشيخ عبد الله بن زايد آل نهيان وزير الإعلام والثقافة وصقر غباش وكيل الوزارة يدركان أهمية هذا الأمر، لكن لماذا لم يتحقق ذلك، لا اعرف.
ربما تكون هناك آليات معينة أو قيود مالية مثلا تمنع القيام بذلك إلا أن الأمر يحتاج إلى خطوة جريئة. لا بد من تخصيص عشر وظائف على الأقل للمبدعين الشباب وأن تكون بطبيعتها متحركة .
وأن تكون مضبوطة بقواعد صارمة بحيث يكون الناتج يستحق والأديب الذي لا ينتج لا يستمر في التمتع بهذه الوظيفة أو هذا الحق. لا بد من فتح الفرص أمامهم حتى لو كانت مكافأة مالية تتيح له أن ينتج وهو غير قلق على معيشته.
ـرؤيتك للإعلام العربي بشكل عام، حددت انه بصورة عامة يعكس رأي الحكومات والجهات المتسلطة خاصة في القضايا التي تستحي هذه الحكومات من طرحها فتنشئ قنوات و«تطنطن» من خلالها، كما أن هذا الإعلام اقرب إلى إعلام 67 من حيث انه عاطفي، شعاراتي، ما بعد الصفعة التي وجهت لنظام صدام، هل تشعر أن هذا الإعلام انكشفت عورته، وما هي رؤيتك في المجال السياسي تحديداً؟ ومكامن الخلل فيه؟
ـ أنا متفائل بالنسبة للإعلام العربي، والسبب أن الإعلام متغير تابع، يتبع السلطة التي يعمل في ظلها، فإذا كانت هذه السلطة مستبدة وقامعة فلا مجال لإعلام مختلف أو حر
لكن هناك تغييرات ايجابية في العالم العربي لكسر عظم هذه الدولة المتسلطة التي تحكم كل شيء وتهيمن على كل شيء في حياة الناس ومصائرهم، ما يجري في مصر أو لبنان أو البحرين على سبيل المثال يقدم إشارة على مثل هذه التحولات، خروج لبنان من الهيمنة السورية أيضا هذه بشارة ضخمة، الديمقراطية في البحرين والأردن والمغرب واقل في اليمن كلها ترفد وتدفع في سبيل تحول إعلامي وغني وخصب.
ـقلت أن دور الإعلام المحلي تزييني وتجميلي، يهون السلبيات ويضخم المنجزات ولم يعتد النقد، إلا تعتقد أن التغيرات الجارية في المنطقة غيرت الإعلام المحلي؟
ـ الإعلام المحلي أيضا صورته معقدة، المشكلة تقنية أكثر منها سياسية، على مستوى الصحف اليومية التي تصل إلى مئة صفحة ومليئة بالحشو والثرثرة يعني أن هناك كلفة مالية، وهناك بشر ينتجونها، والسبب أن الحكومة تتعامل مع الإعلام كمن لا يخشى الفقر، تصرف الكثير ثم تعود فتتراجع وتقلص النفقات والصفحات وتكسر الموضوع كله. نحن في الإمارات نحتاج إلى السير في الطريق الكويتي بمعنى أن يصبح الإعلام خاصاً.
ـ تعليقاً على تأسيس مؤسسة دبي للإعلام دعوت إلى حق النشر للجميع، إلا تعتقد أنها ستسبب فوضى لا أول لها ولا آخر؟
ـ لكنها فوضى خلاقة. عندما أردنا أن نصدر الأزمنة في لندن بقيت شهرين ابحث عن الجهة التي تعطينا حق النشر، ثم اكتشفت انه ليس هناك جهة تعطيك حق النشر، فقط سجل اسمك في البريد، بمعنى أن عنوانك معروف.
اقصد أن يترك حق النشر مفتوحاً وقانون المطبوعات والنشر يضبط المحتوى، بحيث لا يكون هناك تشهير أو انتقاص من سمعة أو ترويج لأمور ضارة بالمجتمع وهذه أمور يضبطها القانون. بصراحة نحن لا نحتاج إلى أن تكون وسائل الإعلام تابعة للحكومة. قانون المطبوعات يحتاج إلى محاكم ونيابة تمسك الجاني.
ـ أنت من القليلين الذين كتبوا عن الحقيقة والحياد في الإعلام ليس فقط في المجال السياسي بل والاقتصادي والرياضي، ما السبب في غيابهما في رأيك؟
ـ ضعف نفوس الكثير من زملائنا الإعلاميين للأسف ليس فقط في الإعلام الرياضي بل حتى في الاقتصادي تبدو بعض المقالات وكأنها مدفوعة، وهذا ما يجعلها بلا مصداقية.
مما يترتب عليه بالتالي أن الإعلام بشكل عام يبدو فاقدا المصداقية وبلا شرف، ومصداقيته أمام الناس مهزوزة، لهذا نحن بحاجة إلى الخروج من هذا الجو ومربط الفرس في رأيي هو أن تترك الحكومة الإعلام وتصبح مراقباً وضابطاً لحركته وتترك وسائل الإعلام حرة طليقة ضمن الضوابط القانونية.
ـ بعد هذه الرحلة الطويلة، لو أصدرت مطبوعة كيف ستكون؟
ـ ستكون مثل «7 Days» لكن باللغة العربية، وستكون موجهة إلى هذا الجيل الذي ينبغي أن نتواصل معه لأنهم أبناؤنا، بالإضافة إلى الكاريكاتير لأنني مؤمن بالصحافة الكاريكاتيرية، وأعتقد أن الكاريكاتير يختصر الكثير من الحشو والكلام، كلنا نعلم أن كاريكاتير ناجي العلي «رحمه الله» يغني عن مجلدات وكتب.
حوار ـ محمد الأنصاري:



مقابلة مع صحيفة البيان الإماراتية
٢٣ أبريل ٢٠٠٨
أكد الخبير الإعلامي وأستاذ العلوم السياسية في جامعة الإمارات، الدكتور محمد غباش أن الإعلام أصبح صناعة تكنولوجية، وأن العالم سيستغني عن البث الفضائي بعد فترة قصيرة لتصبح شبكة الإنترنت هي الأساس حيث ستنتشر ظاهرة مشاهدة القنوات التلفزيونية من خلال الإنترنت.
وحدد الدكتور غباش التحديات التي تواجه العالم العربي في تبني التكنولوجيا الحديثة في ثلاثة محاور أساسية تتعلق بالتدريب والسياسة والاقتصاد. وقال ان تطبيق التكنولوجيا يتطلب تدريب الموظفين عليها، وإن الضوابط السياسية على الإعلام التقليدي لا تزال كلاسيكية وعبثية، في حين أن الإعلام الإلكتروني غير محكوم بضوابط سياسية قوية.
مشيراً إلى أن التحدي الاقتصادي يعتبر أهم التحديات، حيث إن تبني التكنولوجيا مكلف جداً، ويحتاج للتسويق والإنفاق على الجودة والتدريب. وبالرغم من إعجابه الشديد بظاهرة التدوين، قلل الدكتور غباش من تهديد المدونات لوسائل الإعلام الأخرى، لاقتصار المدونة على فئة واحدة من الإعلام وهي المقالة، في حين أن عالم الإعلام أوسع من ذلك بكثير. وفيما يلي المقابلة:

ـ كيف ينظر طلابك للتكنولوجيا الحديثة المطبقة في الإعلام، وهل يتفاعلون معها؟


ـ أعتقد أنهم يفهمونها أكثر منا نحن الكبار، وهم الذين سيقومون بتطويرها، فعلى سبيل المثال من خلال موقع (You Tube) يستطيع الطالب أن يخرج وينتج فيلماً ويعرضه ومن ثم ملايين الأشخاص تقوم بمشاهدته.


ـ نمو الإعلام في العالم العربي يشهد اختلافاً من منطقة لأخرى، كيف يمكن أن تفسر النمو الإعلامي في منطقة الخليج بشكل خاص؟


ـ نمو الإعلام الخليجي يعكس نمو القطاع الاقتصادي في دول الخليج، حيث إن المبادرة الاقتصادية الحرة هي الأساس، فهناك العديد من المؤسسات الإعلامية في منطقة الخليج مثل «ام بي سي»، العربية، والحياة، والشرق الأوسط، والكثير غيرها، ولكن الخليج ينظر للإعلام نظرة خاصة ويهتم به أكثر مما تهتم به المناطق الأخرى. ولأنهم يمتلكون الموارد فإنهم ينفقون على الإعلام، ولذلك لديهم كما ذكرت العديد من المشاريع الإعلامية الضخمة.


ـ كيف تنظر لدور التكنولوجيا في الإعلام الخليجي خاصة، والإعلام العربي عامة؟


ـ أعتقد أن الإعلام قطاع أصبح يخضع للتكنولوجيا، حيث إن المدونات والتي تعتبر الأساس في عالم الانترنت انتشرت بصورة كبيرة جداً، لذلك أصبح الإعلام «صناعة تكنولوجية»، ونفس الشيء بالنسبة للراديو والتلفاز، واعتقد أن العالم سيستغني عن البث الفضائي بعد فترة قصيرة لتصبح شبكة الانترنت هي الأساس حيث سنستطيع مشاهدة القنوات من خلال الانترنت، وأتوقع بالنسبة لصحيفتنا «العالم» أن الموقع الالكتروني سيصبح أهم من الإنتاج الورقي.


ـ ما هي التأثيرات التكنولوجية على إنتاج المحتوى في الإعلام العربي؟


ـ تأثيرات هائلة، حيث بإمكاننا الآن أن نقوم بالتوثيق والتحرير والأرشفة بشكل سريع وسهل، فعلى سبيل المثال من خلال موقعنا الالكتروني يقوم المحررون بوضع مقالاتهم، ثم يأتي دور رئيس التحرير الذي يصحح المادة الإعلامية فيبقي الجيد منها ويستثني غير الملائم للنشر، ويعدل ما يلزم، ثم يأتي دور البرامج المساعدة في إخراج المادة بالشكل المناسب.


ـ ما أهم التحديات التي تواجه العالم العربي في تبني هذه التكنولوجيا؟

ـ هنالك تحديات من أهمها:

* تحدٍ متعلق بالتدريب: حيث إنه يلزم لتطبيق هذه التكنولوجيا تدريب الموظفين عليها، وللآن هناك كثير من التقنيات مجهولة للعاملين، حيث إننا نستطيع القول إن نموذج العمل التقليدي مازال يحكمنا.


* تحدٍ سياسي: حيث لا تزال الضوابط السياسية كلاسيكية وعبثية، وأنا هنا أريد أن أؤكد أن إعلام الانترنت أقوى من الإعلام المطبوع، لأن الانترنت غير محكوم بضوابط سياسية قوية، وبالتالي يستطيع الكاتب أن يعبر عن رأيه بكامل الحرية دون خوف.

* تحدٍ اقتصادي: وهذا أهم تحدٍ، حيث إن تبني هذه التكنولوجيا مكلف جداً، وأنا هنا أقصد إقامة إعلام حقيقي يحقق جدوى اقتصادية، لذلك نحتاج للتسويق والإنفاق على الجودة بالإضافة كما ذكرت سابقا إلى تدريب الأيدي العاملة، وكل ذلك مكلف للغاية.
ـ كيف تنظر لدور المدونات في نقل وتوصيل الإعلام في العالم العربي؟

ـ في الحقيقة أنا معجب للغاية بتجربة التدوين، لأن الشخص الذي يكتب في المدونات هو الذي يتحمل مسؤولية ما كتبه بنفسه، والأهمية الكبرى لهذه المدونات سرعة مواكبتها للوقائع والأحداث الراهنة، حيث يستطيع الكاتب بسهولة كتابة الحدث في نفس زمن وقوعه والاستقبال الفوري لردود الأفعال.

ـ هل تعتقد أن المدونات ستشكل خطراً على الإعلام التقليدي على المدى البعيد؟

ـ المدونات جزء من الإعلام، ولكنها تتمتع بديمقراطية أكبر، ولكنها ليست مستقلة بحد ذاتها عن الإعلام، لأن المدونة عبارة عن رأي فقط والإعلام ليس رأياً فقط، فهناك التحقيق والتقرير والأحداث والرياضة…إلخ


ـ إذاً، نستطيع القول إن هذه التكنولوجيا الحديثة ستؤدي إلى دمقرطة في الإعلام العربي؟


ـ بالتأكيد، وخصوصا الانترنت، فعلى سبيل المثال المدونة تفتح باب الحرية، حيث إن تراخيص الجرائد مقيدة ولا تُعطى بسهولة، أما المدونة تُعطى لأي شخص، وأنا أعتقد أن الانترنت أداة للتحرر، حيث يخرج الشخص من خلالها لفضاء أكثر حرية ويتخلص من الاحتكار الجغرافي الذي يعيش فيه.


ـ كيف تنظر لجهود الحكومات في التحكم بالفضاء الرقمي؟


ـ محاولات بائسة وتصل لطريق مسدود.


ـ في رأيك من سيفوز في صراع الإعلام في المنطقة: الإعلام العربي أم الإعلام الغربي؟


ـ سيفوز الإعلام ذو المصداقية الأعلى، أي الإعلام الذي من خلاله يجد المتلقي الصدق وليس الكذب، فالسباق سيكون على المصداقية، الذي سيُصدق أكثر سينال القبول.


مقالات نقدية:


العنصر الاجتماعي حظي بنصيب وافر من بنية الحكاية

رفيف العادات في رواية مزون لمحمد عبيد غباش :السبت ,09/05/2009
زينب عيسى الياسي - صحيفة الخليج الإماراتية

لكل مجتمع من المجتمعات قيم ومثل يتحلى بها ويسير على نهجها، وكأنها بوصلة تحدد مسار حياة الأفراد القاطنين في هذا المجتمع أو ذاك. ولعل منشأ القيم والأعراف هو حاجة الأفراد إلى إحاطة مجتمعهم بسياج من الخصوصية المميزة لهم كمجتمع مغاير عن المجتمعات الأخرى إلى جانب العديد من الأسباب المؤدية إلى نشأة العادات والأعراف والتقاليد في المجتمعات كالمحافظة على الإرث الديني والأخلاقي والثقافي، الذي خلفه الأجداد بعد سنين من التجارب والخبرات، لتصل إلى المجتمع عادات وتقاليد تتلاءم مع حاجة الأفراد إلى حماية وصون يقياهم مخاطر مختلف الظواهر التي تمر بهم وبأرضهم كالظواهر الطبيعية والجغرافية. لذا نجد جلّ العادات والتقاليد انبثقت وفق الحاجة الكامنة لدى الأفراد والمجتمعات ما أولد تشبثاً عميقاً بها على اعتبار أنها إرث يصونهم ويرفع من قدرهم بين غيرهم من المجتمعات، وذلك بحسب رفعة هذه العادات والتقاليد.
تعج رواية “مزون” للكاتب محمد عبيد غباش بمفردات العادات والتقاليد الخليجية، وبما أن الكاتب إماراتي الجنسية، فالرواية يفوح ثلثاها برائحة مفردات إماراتية، وعادات اجتماعية سادت في فترات زمنية وما زالت بعضها لم تقطفها أيدي المدنية الجائرة من مناطق الدولة؛ فالعنصر الاجتماعي حظي بنصيب وافر من بنية الحكاية، وهذا يرجع إلى التعالق بين الروائي والمجتمع (فتاريخ الرواية هو تاريخ تحوّل التعبير عن المجتمع) فالكاتب رسم طوبوغرافيا للعادات والأعراف السائدة بعيداً عن تحديد المكان أو الموقع الجغرافي المحدد في الإمارات؛ فترك بذلك الحرية للمتلقي لافتراض أمكنة تخصه ومنطقته، وبذلك يصير المتلقي أكثر قرباً من مراد المؤلف، ويسير وفق رؤية المؤلف ومبتغاه.

وبالخوض في غمار النص نجد أن العادات والقيم الاجتماعية شكّلت معالم المكان، وذلك من خلال ممارسات وأفعال الشخصيات التي تتطلب هندسة للمكان الروائي بحيث تتلاءم مع الصفات والتحديدات النفسية والجسدية للشخصية، وبالعودة إلى نص “مزون” نجد هذا التوافق حاضراً بصورة جلية فيما عدا مواقف معينة قد أقحمها الكاتب لترفع من وتيرة الحركة الدرامية للحدث مما أخلّ بالواقع الاجتماعي المعيش في الإمارات وبشكل خاص في فترة بدايات النقلة النفطية، وذلك بوضع جريمة قتل (مطر) في واجهة الحدث الدرامي للرواية.

لقد تناولت رواية “مزون” العديد من العادات الاجتماعية المتداولة بين أفراد المجتمع كعادة الزيارات واللقاءات الودية، كما تناولت تقاليد الارتباط الزوجي، إلى جانب نضوح الرواية بعادات دينية وإسلامية تأصّلت كجزء من العادات والتقاليد الفعلية كارتياد المساجد وصلاة التراويح وعدم الاختلاط وأيضاً العديد من القيم التي تأصّلت في عمق العادات الملبسية الإماراتية تأثراً بالدين ألا وهي ارتداء العباءة والتقنع بالبرقع، وبينما انحسر البرقع كلباس إلا أن العباءة واصلت ترسخها في المجتمع كمفردة من المفردات المميزة للمرأة الإماراتية.

كما تأتي الزيارات كضرورة من ضرورات التواصل الاجتماعي الذي لا يتخلى المجتمع الإماراتي عنها، فزيارة المريض إحدى العادات المستأنسة بين الأفراد والعوائل والأصدقاء والجيران، كما لزيارة التعزية والمواساة - في حالة الوفاة رسم وألفاظ لا يتخلى عنها أبناء المجتمع، فالكل يتزاورون للعزاء وتأدية واجب المواساة: “كانت التعازي تتم في القلعة حيث أصبحتُ ملازماً حمد في مجلس الرجال، بينما سلمى وغادة ومزون وأمها يستقبلن المعزيات في مجلس النساء”.

إنّ هذه العادة الاجتماعية من تزاور ولقاءات عُدّت إرثاً اجتماعياً ما زال يحافظ عليه أبناء الإمارات وإن بصورة تتراوح بين القوة والوسطية بحسب المناطق المدنية والقروية إلا أنها باقية أثيرة، تدل على أهمية المكتسبات وتداخلها مع نسيج المجتمع الخليجي بشكل عام والإماراتي بشكل خاص.

عادات اجتماعية

الكثير من العادات والتقاليد الخليجية مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالدين الإسلامي، فتستقي ديمومتها واستمراريتها منه، فحب المجتمع للدين الإسلامي وانغماسهم في أحكامه جعلهم يتمثلون أوامره كعادة من عاداتهم غير المفرط فيها، فنجد العديد منها مجسداً في النص الروائي كبنية أساسية تتكامل فيه الشخصيات الروائية، ولولاها لغدت شخصيات هشة لا تمثل سوى رسماً في وعي الكاتب لا علاقة لها بواقع الإمارات الاجتماعي، ومن هذه العادات والتقاليد الإسلامية، نجد ارتياد المساجد قد شكّل نقطة تلاقي بين الدين والعادة العرفية والاجتماعية، فارتياد المسجد من أولويات تشكّل الشخصية الإماراتية المقبولة، ومن لا يرتاده يعد هذا الأمر نقصاً في قِيَمه الأساسية وفي أعرافه، فنجد الشخصية الرئيسة (عبدالرحمن) يستشعر الخجل من مروره أمام كبار السن - وهم جلوس - لأنه لم يعد يلتزم بتأدية الصلاة معهم في المسجد:

“..كنت اتجنب لقاءهم، لأنهم يحرجونني بلومي على عدم تأدية الصلاة معهم،و بتذكيري بأن والدي كان شديد التدين”.

وفي المساءات الرمضانية تشكل صلاة التراويح صورة حية على عمق الارتباط بهذا الأمر الديني ومدى تمسك الناس مجتمعة بهذه العادة الدينية: “..تعودت أن أصلي ركعات قليلة من التراويح ثم أنسل بهدوء خارجاً من المسجد، وأجلس مع الرفاق ألعب حتى تنتهي الركعات جميعها. بعدها يخرج أبي مع المصلين من المسجد..”.

بينما تأتي مفردة الاحتجاب عن غير المحارم، والبعد عن مجالس الرجال سمة من سمات المجتمع الإماراتي، الذي ما زال يحافظ على محدودية التواصل بين الجنسين وذلك حفظاً لخصوصية كل منهما.

وتأتي عادة اجتماعية أخرى مرتبطة بالدين الإسلامي، وهي عدّة المرأة الأرملة، فهي تلتزم البيت لبضعة أشهر، وتحتجب عن الرجال بشكل كلي، وذلك امتثالاً دينياً، وبموازاته التزاماً عرفياً لا خروج عليه:

“كانت مزون متوارية تقضي العدّة بعد وفاة زوجها، والتي يتوجب عليها تقليص اتصالها بالناس إلى أضيق حد..”.

وإذا ما اضطرت المرأة للخروج، استهجن الناس والمجتمع خروجها على الرغم من أن الدين أباح الخروج اضطراراً: “..كان مجيئها إليّ أمراً مستهجناً في مجتمعنا. فعلى المرأة التي تفقد زوجها أن تقضي العدّة في بيتها، لا يراها أحد ولا ترى أحداً لعدة أشهر، لكن قلقها على شقيقها جعلها تتخطى القواعد السارية”.

وتأتي العباءة السوداء كمفردة دينية مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالإسلام، فنجد المرأة الإماراتية تعدها من أدوات احتشامها الدينية والعرفية، فالدين قد حث على الستر والعرف قد صاغها بلونها الأسود، فامتثلت المرأة لأمر الدين والعرف وبصورة متناغمة محببة جعلتها بالعباءة تتميز عن غيرها من المجتمعات بمحافظتها عليها: “جاءت سلمى بعد قليل ملتفة بالسواد”. “مرّت مجموعة من السيدات بعباءاتهن السوداوات..”.

الزيارات

من أبرز العادات الاجتماعية التي جمّلت نص “مزون” للكاتب محمد غباش هي مسألة الزيارات والتواصل بين أفراد المجتمع، وقد تنوّعت صور التزاور، فمن تزاور عائلي أثير بين أفراد العائلة الممتدة في المساءات، فيكون التلاقي للسمر والسؤال عن الأحوال، وبموازاته للتسرية عنهم بعد يوم عمل شاق بمشاهدة التلفاز بشكل جماعي.

كما تأتي لقاءات كبار السن كمنتدى اجتماعي يسري عن الآباء والأجداد في عصريات الأيام، وترطيباً لجفاف الأيام وتواليها بشكل رتيب، وكسر حاجز الفراغ الذي خلّفته سنوات من الكد والعمل الشاق، فيكون اللقاء واحة رطيبة:



شكاليات اللغة والتأصيل والمصداقية والتعبير عن الشخصيات المركزية والفرعية
محمد عبيد غباش.. حوار يخترق الأسوار
تاريخ النشر: الخميس 03 مارس 2011
صحيفة الاتحاد الإماراتية

الكاتب: ماجد نورالدين


مراجعات في سير ونصوص مبدعين من الإمارات (5)
لا يتكئ الجيل الأول من المبدعين الإماراتيين، في الشعر وفنون الكتابة عموماً، إلا على موهبته الطازجة الطالعة من عناصر التكوين الأولى للإنسان العربي في صحرائه المزدحمة بالرسالات والقيم، التي صاغت روحه وخياله. وحينما راح رموز من هذا الجيل يترجمون مواهبهم، بقصائد متوهجة ونصوص متمرسة، فإنهم لم يكونوا يعكفون على تشييد بنيانهم الإبداعي الخاص، بقدر ما كانوا يساهمون في صياغة صرح أدبي لوطن ناهض.. أصبح متكئاً لأجيال من المبدعين الإماراتيين، أتوا وسوف يأتون..

هنا إطلالة على سير ونصوص رموز من الجيل الإبداعي المؤسس.

الكاتب الدكتور محمد عبيد غباش هو بالإضافة إلى اشتغاله في مجال إبداع الرواية إعلامي وأكاديمي بارز، وله الكثير من البصمات والأدوار في مسيرة الحركة الثقافية في الإمارات، وبخاصة حين ترأس تحرير مجلة “الأزمنة العربية” التي توقفت عن الصدور العام 1996. وفي السياق ذاته، يمكن القول إنه واحد من أهم الذين أسسوا لبنية ثقافية محلية، فهو من الأجيال التي بدأت الكتابة مطلع السبعينيات، وبخاصة روايته “دائماً يحدث في الليل”، وما زال يثري الحقل الإبداعي بإسهامات كتابية نوعية، تؤكد دوره الفعال في تطوير طرائق السرد وأشكاله.

لقد كان غباش مولعا بتناول قضية “التمايز الطبقي”، وهي قضية شمولية، ساهمت في بزوغ نجم أسماء كبيرة في عالم الرواية، وهذا ما كان يعيه الكاتب في بناء روايته التي تصور فيها الحياة كما ينبغي أن تكون، من خلال لغة ومفردات سهلة الفهم، وتعمل في ذات الوقت على بناء مستقل لكل شخصية في الرواية، باستخدامه المتقن للسرد الذي جاء بلسان ضمير المتكلم، حيث نقرأها بلسان الشخصية الرئيسية “خالد” منذ أول كلمة في الرواية.

أول ما يلفت النظر في هذه الرواية التي يمكن وصفها بـ”رواية الإيقاع” هو اكتمالها الفني من خلال العناية برسم الشخصية المركزية (خالد) فمن خلالها استطعنا التعرف على بقية الشخصيات مثل: سالم الماجد، ريم، أحمد، مريم، جمعة، عوض، فاطمة، في إطار المفهوم الداخلي الأرقى للشخصية وكيف يؤثر على سلوك بقية الشخصيات في المتن الروائي: “ولدت صلتي بأحمد من أشلاء علاقتي بمريم، فلولا انهدام ما بيني وبينها، وقبولها الزواج من أبيه، لكان احتمال تعرفي عليه ضئيلا إن لم يكن معدوما” (الجزء الأول، الفصل الخامس). كما أن أحمد يلتقي بليلى عن طريق الشخصية المركزية: “كان المرض العصبي الذي هاجمتني أولى نوباته عشية زيارة أحمد لي لأول مرة، هو السبب وراء التقاء أحمد بليلى ونمو علاقتهما التي انتهت إلى الزواج”. تجد في ثنايا أحاديث هذه (الشّلة) المثقفة نوعاً من الثرثرة حول الحرية والمساواة، في حين أن الكاتب كان يرمي من أحاديثهم إلى تحليل مشاعرهم وهي تتأرجح بين أحلام وشعارات بعض المثقفين، وبين الواقع الاجتماعي السائد بكل مرارته وقسوته وتحولاته، ويبدو ذلك من حديث فاطمة: “يبدو أن جلساتنا التثقيفية هذه لا فائدة منها، نحن كل ليلة نتحدث عن حرية الإنسان وعن صفات المجتمع المتقدم الخالي من الاستغلال والعبودية والتسلط، إلى آخر المثل العريضة التي نثرثر فيها بطريقة شبه يومية، ولكن عندما نتبنى سلوكا شخصيا ندوس على هذا كله ونعود لارتداء جلودنا العتيقة، فإذا بكم مستغلون رغم أحاديث المساواة، ومتسلطون رغم التغني بالحرية ورجال شرقيون رغم ادعاءات حقوق المرأة”. يكشف كلام فاطمة عن تطور منتظم لإيقاع الشخصيات وتطور الحالة والحدث نحو الكشف عن المخبوء والمستتر في عالم أهل الثقافة، والملاحظ هنا أن موضوع السرد في الرواية لم يكن العالم الخارجي فحسب، بل والعالم الذاتي للسارد ولشخصياته، أي أن الكاتب لا يكتفي بمعاينة الواقع الخارجي، بل يمنح سرد العوالم الداخلية والنفسية مكانة هامة واعيا بالطابع التركيبي المعقد الذي يربط بين الخارج والداخل، بين الذات والمجتمع، ويجعل كل معرفة أو حقيقة ذات طابع نسبي.

الإسقاط الفني

قد ينظر البعض إلى السطح المنسوج للرواية، على أنه بسيط، وربما ضمن السياق العام للحياة اليومية الروتينية، فحادثة اغتصاب طفل، قد تمر دون أن يتنبه لها الرأي العام بخصوصية، وربما كانت النظرة إلى الحادثة في الوقت الذي كتب فيها غباش روايته، محدودة، لكن النظرة الاستشرافية للكاتب، يمكن ملاحظتها اليوم، في عصر العولمة وثورة المعلومات، حيث أصبحت قضايا الاغتصاب، ظاهرة تتشكل في أكثر من معنى ودلالة. أما الموضوع فيتناول حكاية مجموعة من الأصدقاء الذين يلتقون كل يوم، يتبادلون أطراف الحديث، ويناقشون وضعهم الاجتماعي المأزوم، وفجأة تحدث جريمة اغتصاب طفل بريء، بل وقتله من قبل شخصية ثانوية سلبية هي (جمعة) الذي تقتله (فاطمة) ليتحول الحدث في الجزء الثاني من الرواية إلى دراماتيكية ذات طابع بوليسي لإخفاء جريمة فاطمة وذلك بتخطيط ومهارة سالم الذي انضم في وقت لاحق للمجموعة، لنكتشف سريعا أنه كان في طفولته ضحية لجمعة وسيده والد أحمد، وكأن الكاتب يطرح لنا منظومة متشابكة من العلاقات الطبقية التي يقيم عليها حبكته الفنية، لقد كان دافع سالم من الانضمام للشّلة هو (الانتقام)، فيما تنتهي الأحداث بهروب الشخصية المركزية (خالد) إلى خارج البلاد (الهند) لإنقاذ صديقته فاطمة من جريمة قتل جمعة، وقدمه لنا الكاتب على أنه شخص مهمش، مسحوق، مسلوب الإرادة من قبل سيده المقاول ناصر، ليوصم في مجتمعه بلقب “مغتصب أطفال”.
الواقع أن ما يميز “دائما يحدث في الليل” في السياق السابق هو تقنياتها وطريقتها في التحليل النفسي والتغلغل في أغوار الشخصيات التي رسم كل واحدة منها بعناية فائقة وعلى نار هادئة، للكشف عما يجري من دقيق الأحاسيس ضمن إيقاع ممتاز كان يصعد ويهبط في تناغم شديد مع الحدث. إن الحضور القوي والنوعي لأساليب وطرائق تشخيص العالم الذهني والنفسي، وبالأخص منها (المونولوج الداخلي المسرود)، وهو من أكثر الأشكال التعبيرية جمالا وثراء لأنه يشير إلى انتماء الكلام إلى المحكي، ومن ذلك منح القارئ فرصة كبيرة لالتقاط ما بين السطور من مفردات يستطيع أن يبني عليها العديد من الإسقاطات من قضية الاغتصاب الجسدي، إلى الاغتصاب الفكري، وما يتفرع عنه من مظاهر مصادرة حرية التعبير، وغيرها مما يدخل في باب طرح الاستفهامات والتلميحات إلى أخطر قضية يمكن أن تولد من رحم هكذا موضوع وهي العدالة الاجتماعية المفقودة في أرجاء الأرض.

فن المناقشة

إن “فاطمة” هي أكثر الشخصيات النسائية التي رسمها الكاتب في روايته حيوية ونشاطا باحثة عن فعل التغيير، مستفيدا من التطور الذي أحدثه التعليم على حياة المرأة ومكانتها وما فتحه أمامها من آفاق جديدة أنعكس على وعيها في التصدي للكثير من القيم والعادات. وبهذا الوصف، تصبح فاطمة نقيضا لشخصية “مريم” وشخصية “ليلى”، فالأولى نموذج قدري للمرأة المستسلمة، والثانية محدودة الإرادة إزاء فعل التغيير. وتبدو لنا “فاطمة” في الرواية نموذجا مبشرا بميلاد جيل جديد من النساء على مستوى المشاركة في نقلة التغيير، ومستوى مجابهة المجتمع الذكوري. يقدم لنا محمد عبيد غباش في إطار من الواقعية النثرية الجميلة شخصية “فاطمة” باتجاهاتها الفكرية على أنها “نورا” جديدة (بطلة الكاتب النرويجي هنريك ابسن) في مسرحيته الشهيرة “بيت الدمية” 1879، حينما رفضت البقاء تحت سقف واحد مع زوج أسير (تورفالد هيلمر) لتقاليد اجتماعية بالية، وهي زوجة قوية ومكافحة عاشت من أجل استقلالها وحريتها والعمل على المساواة مع الرجل. وبمقاربة بين المرأتين استطاع غباش أن يدخل من خلال العناصر النسائية إلى أحداثه فن المناقشة الاجتماعية، متميزا في ذلك بتعبيرية تتميز بالنظام والترتيب والموضوعية، ولنا أن نكتشف هذا الجانب سريعا في القرار الذي اتخذته فاطمة برفضها الزواج من ابن عمتها خالد، ومن ثم رفضها للزواج من صديق الشلة راشد: “حسنا يا ابن العمة أريد أن أجيبك على مشاريع الزواج بالنفي.. والنفي حتى تتغير نظرتك إلي، لكل حادث حديث”. إن الكاتب يصنع من المناقشة صورة فنية لإشكالية العلاقة الرجل بالمرأة في مجتمع التحول، إشكالية مبنية على صراع الأفكار، الذي يفرز بدوره تلميحات إلى حقوق المرأة، وتمكينها من اتخاذ القرار، ولنا أن نستشف ذلك من ردة فعل احمد الغاضبة والعنيفة تجاه قرارات فاطمة المتتابعة برفض الزواج لمن يتقدمون لها: “من يسمع حديثك يظن أن راشد قد قتل عزيزا لك.. أصبحت مدمنة للمشادة والشجار، كل يوم لك ضحية! الأسبوع الماضي كان خالد، قبله كنت أنا، والآن راشد هذا الملاك الذي لا يستطيع أن يؤذي نملة.. كل هذه القسوة المريضة لأنه لم يتحدث معك مباشرة، أين تحسبين نفسك.. في أوروبا؟ لم تجب فاطمة بأي كلمة، بل نهضت من كرسيها باتجاه المطبخ ولمحت انعكاسات الضوء في عينيها اللتين خيل لي أنهما مبتلتان بالدموع، بينما الوجوم يخيم على وجهها” (الرواية، الجزء الأول، الفصل الخامس).

يستخدم غباش عنصر “الراوية” من منظور فني غير تقليدي، ويستثمر هذا الجانب في شخصية “خالد” فهو الراوي والكاتب والشخصية الرئيسية التي تحرك الأحداث بحذر شديد، ولعل ذلك يحسب للكاتب في أنه قدم لنا “الراوية” بشقيه الإيجابي والسلبي، وقد تخلى في الكثير من المواقف عن تمجيد نفسه، وإتاحة الفرصة لبقية الشخصيات بالتعبير عن نفسها، وهو أيضا “مثقف” يبحث عن ذاته ودوره ورسالته في مجتمعه من خلال (برج عاجي)، حينما تكشف لنا مناقشات (الشّلة)، أنهم ليسوا أكثر من رومانسيين مثاليين، وأن وعيهم لم يكن متجذراً في عمق مجتمعهم، كان وعيا معزولا، مثل بعض المثقفين العاجزين عن اقتحام الشارع والتعبير عنه، تماما مثلما وصفهم الراوي داخل الرواية بأنهم معزولون وغير منفتحين على الناس والمكان، وكل علاقتهم بالمجتمع مبنية على أفكار مثالية معلقة في الهواء. إن الكاتب يقدم لنا “راوية” من نوع خاص، فمن خلال سلوكه يستحضر لنا المفهوم الحقيقي للديموقراطية، ملخصا في “نقد الذات” الذي مارسه خالد، حينما كان يعترف وبجرأة واضحة بأخطائه وكأنه ضمنا يتهم هؤلاء الأرستقراطيين المثقفين وانفصالهم النقدي غير المباشر عن المكان، لينجح الكاتب في بناء (شخصية مزدوجة) تصل في ذروتها إلى التوهج الداخلي إلى حد التمرد والى حد الهروب الواعي.

اغتراب داخلي

عن روايته “مزون” المكونة من 134 صفحة في 9 فصول، والتي هي في الأصل منجز مطور لرواية “دائما يحدث في الليل”. في “مزون” تتجسد غربة الإنسان في وطنه، ويتعزز هذا الاغتراب نتيجة لتضافر عاملين رئيسيين: القدر من جانب والظروف التاريخية الحديثة التي يمر بها المجتمع في الستينيات من القرن الماضي. ويقول غباش في هذا الصدد: “أعتقد أننا كلنا بشكل أو بآخر نشعر بغربة داخلية بسبب التحولات التي تعيشها مجتمعاتنا، نحن بحاجة إلى نموذج للحياة، وإذا حاولت تطبيق ذلك علي أن أستحضر جزءا من طفولتي، حينما ركبت جملا من دبي إلى رأس الخيمة، نفس الشخص الآن يركب طائرة ليصل إلى نيويورك في وقت أسرع”. وربما يكون رد بطل الرواية على هذا الكلام مرادفا للمعنى حينما يقول: “ما الذي حدث لأنفي وعيني بل وكل حواسي حتى صارت الأشياء أمامي لا طعم ولا لون لها، بينما الصور في ذاكرتي تقفز بالألوان والأصوات والروائح” (مزون ص 32). تلك هي الوضعية الإشكالية لبطل الرواية “عبد الرحمن أبي عوف” شاب في نهاية العشرينات، يسرد شاهدا حكاية جريمة قتل أقدمت عليها ابنة خالته “سلمى” بحق المغدور زوجها “مطر”، صديق طفولة أبي عوف وشقيق حبيبته “مزون”. تتوالى الأحداث في مسار سردي يتلبس فيه الراوي التهمة عن سلمى في إطار حبكة تشترك في صياغتها مجموعة من الشخصيات الثانوية، لتنتهي الأحداث بهروب المتهم إلى خارج الوطن، محققا رغبة مكبوتة في داخله بالهجرة، تاركا خلف ظهره رحلة محفوفة بالتأزم وواقعا مترديا، وعلاقات متشابكة لم تفض إلا للمرارة والقلق والأسى.

الفصول الأربعة الأولى من الرواية، لعب فيها تكنيك الحدث ألاسترجاعي دورا مهما في الكشف عن تفاصيل تطور الحالة النفسية ومزاج شخصية البطل في بوح ذاتي جميل: “لمحت شبح أمي وأبي وكأنهما تقمصاني، بل لعلي ما أنا حقا إلا هما، حتى ذلك الفعل الرابض وراء هذه القسمات يخيل إلي كثيرا أنه ليس شيئا يخصني، هو الآخر مزيج من عقلي أمي وأبي وعقول كل أولئك الأشخاص الذين تأثرت بهم، في نهاية الأمر لا يتبقى مني أنا عبد الرحمن، الشخص المزعوم شيء لا يعود إلى غيري.. (الرواية ص 40). حول الرواية وعلاقتها برواية “دائما يحدث في الليل” كتب الناقد محمد ولد عبدي: “ومهما يكن ظننا بالكاتب فإننا نحسب أن “مزون” لا تلغي البتة “دائما يحدث في الليل” فللنصين من السمات الفنية والدلالية ما يعطيه مشروعية الاستقلال، خصوصا بالنظر إلى سياقي إنتاجهما وتلقيهما وأثر ذلك على تأويلهما، مما نحسبه موضوعا طريفا ثرّ النتائج، يحتاج قراءة تأويلية لا تدخل في اختصاص قراءتنا هذه منهجا ولا أدوات، لأنها تدخل في نظرية التلقي”.

واعتبر الدكتور سمر روحي الفيصل في كتابه “قضايا السرد في الرواية الإماراتية” الصادر عن دائرة الثقافة والإعلام بالشارقة عام 2003 السرد في “مزون” هو من نوع “السرد الذاتي” في محاولة للقضاء على الحكاية والسارد المهيمن وزج السارد الممثل إلى رحاب البنية الروائية الجديدة كتعبير عن حداثتها.

فن الاحتجاج

الجانب الثاني من مسيرة محمد عبيد غباش الكتابية تمثل في سلسلة ضخمة من الدراسات والمقالات والبحوث التي كتبها ونشرها عبر الصحافة ووسائل إعلامية مختلفة، مقالات في السياسة وشؤون الحياة المختلفة والثقافة والفكر، جميعها عكست إيقاعا مهما من فنون الاحتجاج التعبيرية التي توجه رسالة مهمة نحو ضرورة احترام (الكرامة الإنسانية). من سلسلة تلك المقالات ما عرض من خلاله لقضية إشكالية العمالة الرخيصة في دول مجلس التعاون الخليجي، وناقش أيضا قضية البطالة.

وفي صيغة أدبية ممتعة قدم غباش “شهادة” في ندوة الرواية الإماراتية في الشارقة عام 2002 برعاية الدائرة الثقافية، وحملت الشهادة عنوان “كاتب يعترف” متسائلا: كيف نجعل الأشجار تقهر المقاولين؟ وكيف ننسج أدبا ينصر المهزومين؟ ونجتزئ: “كمثل باقي جيلي تعلمت اللغة العربية أساسا في المدرسة كلغة مكتوبة وليس كلغة تخاطب، وكمثل غيري خضعت طيلة السنوات الثلاثين الأولى، من حياتي للتقاليد البلاغية المتوارثة منذ العهد الذهبي للغة العربية في العصر العباسي، ولذلك بدأت ككاتب ملتزم بذلك التراث، مفتونا بالصنعة اللفظية، أعظّم الكناية، وأبجّل السجع، يعجبني الطباق ويسحرني الجناس، وأرى في الإطناب فضيلة، وهي أساليب ربما يكون بعضها أكثر مواءمة للشعر، ولكنها لا تمثل بالنسبة للرواية على أحسن الأحوال الأهمية نفسها، بل والتي تمتلك القدرة على تشويه الفن الروائي بسهولة إن هي تم توظيفها بكثرة”.

من اللافت في تجربة الكاتب حضوره القوي في معظم المنتديات والملتقيات الثقافية على مستوى الدولة، ومن ذلك مشاركته بورقة عمل مهمة في ندوة أزمة المجلات الثقافية التي انعقدت في المركز الثقافي بعجمان مطلع مارس 2010، استعرض من خلالها تجربة مجلة “الأزمنة العربية”. وعن تجربته الروائية تحدث غباش في ندوة نظمها اتحاد كتاب وأدباء الإمارات ضمن فعاليات ملتقى الثلاثاء الأدبي، وقدم لها الدكتور يوسف عيدابي. واعتبر غباش أن كتاب الرواية الحاليين في منطقة الخليج العربي هم الجيل الريادي، وعبر هذه الريادة وكان لا بد من التصدي لمجموعة من التحديات والإشكاليات في العمل والكتابة بصورة عامة، ومن هذه الإشكاليات كانت اللغة القائمة على جملة من المقومات الإنشائية والبلاغية غير قادرة على استيعاب التجربة الإنسانية والتغيرات الاجتماعية الحادة في القرن العشرين، فكان لا بد من العمل على تطوير هذه اللغة. وتطرق غباش إلى مسألة خطيرة في هذا السياق، حينما قال بأن المضمون (التسلوي) الكبير الذي وصل إلينا من الأعمال الروائية والتي اعتاد عليها القارئ، جعلته يستهجن الأعمال الروائية الجادة، فكان الرهان أيضا على الوصول إلى تلك (الثيمة) التي يتم عبرها اختراق فخ التسلية وتجنب الوقوع في الجدية المبالغ فيها، إلى جانب عدم تحويل العمل الروائي إلى وثيقة أو مادة صحفية مشحونة بالمواقف الأخلاقية.

كان من الضروري في تقديري أن نختم الموضوع بالعودة إلى مجلة “الأزمنة العربية” التي شكلت مرحلة مهمة ونقلة في مسيرة غباش، كونها شكلت علامة فارقة في مسيرة الحركة الثقافية في الإمارات وبخاصة في مرحلة تكوينها الأول، وفي حوار معه تحدث حول فكرة نشأة المجلة التي ساهمت في بروز نخبة من الأقلام الجادة. قال: “كانت الفكرة في بالي منذ اليوم الأول في الولايات المتحدة خلال الدراسة، حيث أن إيقاف وإلغاء مجلة “المجمع”، كان سببا في أن نعيد إصدار مطبوعة صحافية إعلامية جديدة ونتعلم من الدروس التي مررنا بها في الماضي والأخطاء التي ارتكبناها، كنا نريد عملا نكتب فيه بقدر عال من الحرية ونتفاعل مع بيئتنا وننهض من خلاله بمجموعة من الشباب الذين لا يجدون منابر يكتبون فيها، ولأننا لم نكن قادرين على القيام بعمل خيري اضطررنا أن نضعها في نموذج تجاري بحيث يدعمها القارئ، وعندما أردنا تأسيس المجلة عام 1978 رأينا أن تكون ثقافية وأن نبتعد عن الجانب السياسي، لقد شاركت أسماء كثيرة للنهوض بالمجلة والكتابة فيها منهم على سبيل المثال لا الحصر: عبد الحميد أحمد، أمينة بوشهاب، مريم بوشهاب، حبيب الصايغ، حمدة خميس، ظبية خميس، أحمد راشد ثاني، رأفت السويركي. كانت المجلة تطبع نحو 15 ألف نسخة وتوزع على مستوى الإمارات والعالم العربي. عام 1983 صدرت المجلة من لندن، ومن ثم انتقلت إلى قبرص، لتحل رحالها في بيروت حتى عام 1996، لتتوقف عن الصدور بشكلها الورقي، ولتعاود صدورها الكترونيا، وهي ممتلئة بشتى المواضيع حول الأدب والثقافة والفكر وغيرها”.

هناك الكثير مما يمكن كتابته عن كاتب إماراتي عاش طوال حياته من أجل الكلمة، أما مجمل تجربته فيشير إلى أنه كان على الدوام في حالة صراع مع إشكاليات عديدة منها: إشكالية المصداقية وإشكالية التأصيل، وإشكالية اللغة والتعبير، ومثل كل المشتغلين في مجال الإبداع وضع طموحاته ومحاولاته التي عرضنا لبعضها، وكان على الدوام يتنقل في لعبة الحفاظ على التوازن الاجتماعي، نحو عدالة اجتماعية رصدتها معظم كتاباته.

الكاتب والمناصب

ولد الدكتور محمد عبيد غباش في إمارة دبي في 29/ 9/ 1952، حاصل على درجة الدكتوراه في فلسفة العلوم السياسية من جامعة ويلز بالمملكة المتحدة، يعمل منذ العام 1994 أستاذا مساعدا بقسم العلوم السياسية بجامعة الإمارات العربية المتحدة، عضو اتحاد كتاب وأدباء الإمارات، عضو جمعية أعضاء هيئة التدريس بجامعة الإمارات، حاصل على جائزة جون لوك للتميز الأكاديمي ـ جامعة شيللر العام 1984، وجائزة رواد الصحافة ـ اتحاد الصحفيين بدولة الإمارات العربية المتحدة، وجائزة اتحاد الكتاب العرب العام 2004، كما حصل على جائزة تريم عمران الصحفية العام 2005. وتعتبر روايته “دائما يحدث في الليل” التي كتبها العام 1974 ضمن نتاجات الريادات الزمنية، وكان غباش قد نشر الرواية مسلسلة في أربع عشرة حلقة في مجلة “الأزمنة العربية” التي كانت تصدر في الشارقة أسبوعياً، ابتداء من العدد 20 بتاريخ 18/ 7/ 1979 وحتى العدد 33 بتاريخ 24/ 10/ 1979، وقد صدرت الرواية مؤخرا في طبقة جديدة أنيقة ومنقحة تحت عنوان “مزون”.
شغل غباش العديد من المناصب الأدبية، منها عمله رئيسا لتحرير مجلة “المجمع” بدبي العام 1975، رئيسا لتحرير مجلة “الأزمنة العربية” 1986، مدير عام جريدة “الفجر” بأبو ظبي من 2001 إلى 2002، مستشار ثقافي بالمجمع الثقافي بأبوظبي في الفترة ما بين 1990 إلى 1994، رئيس تحرير صحيفة days 7، من 2003 إلى 2006، من أهم كتاباته النثرية “من لا يعرف شيئا فليكتب” العام 1988. كما صدر له بالإنجليزية كتاب عن دولة الإمارات العربية المتحدة.

من الحكاية إلى الخطاب
قراءة في رواية ‘ مزون ‘ لمحمد عبيد غباش
الكاتب: محمد ولد عبدي
إن تطور مناهج النقد الحديث وتعدد أشكالها وتنوع آلياتها، واختلاف مشاربها وأسسها المعرفية، قد أفسح المجال أمام تحليل شعريات النصوص ومكونات خطابها ضمن أفق يراهن على تحقيق ‘علمية’ التحليل خصوصا في مجال النص السردي، ذلك أن السرد يقدم نفسه للقارىء الناقد مادة جلية في تجانسها وشفافيتها وطابعها الكلي العام مما يجعله حقلا خصبا للدراسات النقدية الجديدة وميدانا لتطبيق علم النص.
ونحن وإن لم يكن هدفنا عرض أسس تلك المناهج ولا آليات اشتغالها، إذ لذاك مظانه، فإننا نحسب أن أي معالجة للنصوص لا ترتهن إلى تلك الدراسات تظل خبط عشواء وحديث مجاملات، لا تنتج معرفة ولا توسع إدراكا ولا تفتح في العمل الأدبي عين إبداع، وهو ما نلمسه – آسفين – في غالب المنجز النقدي في ساحتنا الثقافية وأستثني اللمم.
ولهذه الأسباب تكشف هذه القراءة مبتدأ عن هويتها، وتعلن مبتغاها في تحقيق علميتها على ما في ذلك من نسبية تطال الاستحالة في مجال النص الأدبي رغم ما حققته الدراسات الشعرية Poetiques من انجازات أكسبتها استقلالية في ما أصبح يطلق عليه ‘ علم السرد’.
وفي هذا السياق فإن تلك الدراسات على اختلافها تمفصلُ إجرائياً كل عمل سردي إلى مظهرين:
1. الحكاية: وهي مجموعة الأحداث المتتالية زمنياً، التي قام بها أشخاص تربط بينهم علاقات وتحفزهم حوافز تدفعهم إلى أفعالهم، وذلك بشكل منطقي وفي إطار زمان ومكانٍ معينين.
2. الخطاب: وهو التحقق اللغوي للحكاية، أى الطريقة التي رويت بها وفق ترتيب ونظام معينين، إنه الدال اللغوي في مقابل المدلول (الحكاية).
إنطلاقاً من هذا التصور المنهجي تسعى هذه القراءة إلى تأصيل تقاليد الممارسة النقدية المتكئة على منجز شعرية الرواية وذلك انطلاقاً من رواية ‘مزون’ للكاتب الروائي الدكتور محمد عبيد غباش. ما الذي تقوله حكاية هذه الرواية؟ ما علائق شخصياتها وحوافزهم ؟ كيف تحققت بنية خطابها، ما علاقة زمنه بزمن الحكاية؟ أى ميكانزمات اتكأ عليها لتحقيق شعريته ...؟
وأخيراً أى السلالات النصية تركت سماتها الوراثية في هذا النص ؟

2. من حكاية البطل إلى بطل الحكايـــة :
‘ ما الذي حدث لأنفي وعيني بل وكل حواسي حتى صارت الأشياء أمامي لا طعم ولا لون لها، بينما الصور في ذاكرتي تفقز بالألوان والأصوات والروائح’’ ‘ مزون’ ص 32.
تلك هي الوضعية الاشكالية لبطل رواية ‘مزون’ عبدالرحمن أبي عوف، شاب في نهاية العشرينات، يسرد شاهداً حكاية جريمة قتل قامت بها ابنة خالته ‘سلمى’ ضد زوجها مطر، صديق طفولة أبى عوف وأخو حبيبته ‘مزون’. وتتطور الأحداث في مسار سردي تمنطقه أفعال الشخصيات، يتلبس عبره الراوي التهمة عن سلمى في حبكة قصصية تشترك في صياغتها شخصيات ثانوية عدة، وتنتهي الحكاية بفرار المتهم خارج البلد إلى وجهة مجهولة، محققا بذلك رغبة مكبوتة في الهجرة، تاركاً وراءه تاريخاً شخصياً ملتبساً وعلاقاتٍ قرابيةً مأزومة، وواقعا مترديا ، سيالا.
وعلى الرغم من مركزية حادثة القتل هذه وبساطتها في الآن ذاته، إلا أنها شكلت نواة انشطارية عبرها تفجر القص جهات شتى، فاضحا مناطق سرية في سيرة البطل ومسيرته، كاشفا طبيعة علاقاته الاجتماعية وعمق ارتباطه بمحيطه الطبيعي، فأى ميكانزم تحكم في تلك العلاقات، وما أثره في مسار الأحداث ؟

1. البطل والشخصيات : جدلية الائتلاف والاختلاف .
تشكل الفصول الأربعة الأولى من ‘مزون’ تأثيثاً سردياً عبره عرض الراوي حكايته منذ الطفولة حتى فراره عبر البحر وهي حكاية صاغتها شخصيات الرواية أكثر مما اجترحها البطل نفسه يقول:
‘ لمحت شبح أمي وأبي، وكأنما تقمصاني، بل لعلي ما أنا حقا إلا هما ... حتى ذلك العقل الرابض وراء هذه القسمات يخيل إلي كثيراً أنه ليس شيئا يخصني، هو الآخر مزيج من عقليْ أمي وأبي وعقول كل أولئك الأشخاص الذين تاثرت بهم ... في النهاية لا يتبقى منى أنا عبد الرحمن، الشخص المزعوم، شىء لا يعود إلى غيري .. حين تشكلت بهذه الصورة لم أعد موجوداً، الموجود هو مَسْخٌ صنعه الآخرون ، وزعموا أنه أنا، مجرد وعاء صبت فيه ظروفي الأسرية وانتمائي لبلد معين’ ص 40 .
هكذا تصبح حكايةُ البطل حكايةَ مجتمع الرواية كله، غير أن منطقها لا ينجلي إلا بالكشف عن طبيعة علاقة الراوي بالشخصيات المشكلة له، وهي علاقات بدت لنا بعد الاستقراء محكومة بجدلية الائتلاف والاختلاف.

أ‌- الشخصيات المؤتلفـــة
تمثل هذه المجموعة غالبية شخصيات الرواية، وقد كان لها الأثر العميق في تشكيل شخصية البطل وتوجيهها صوب مصيرها ويمكن تقسيمها إلى المجموعات التالية:
1. علاقة قرابة : ويمثلها أبواه وخالته وابناها ) حمد وسلمي) ، فلقد شكل أبواه سلوكه الأول، أخذ عن أمه الكرم وأوصته به، وعن أبيه التجارة ومارسها، غير أن الأم توفيت وعمره ثلاث عشرة سنة وتوفي أبوه وعمره ستّ عشرة سنة، ورغم ذلك ظلت صورتهما حاضرة في ذهنه، كأنما تقمصاه. أما خالته فكانت في علاقتها به كأمه تماماً، أوصته بما أوصته به أمه ‘ ألا يخاف الحاجة، فيدخر ما يفيض عنه بل يعطيه للمحتاجين’ ص 49 ، غير أن الخالة توفيت بعد وفاة أبيه بأقل من سنة، ولم يبق له من الأقارب سوى حمد وسلمى، اللذين ساعداه في لبس التهمة والخروج من البلاد.
2. علاقة تواصل: ويمثلها في الأساس أصدقاء طفولته (خميس، عتيق، سلمان، عبدالله) ، كان في البدء يسهر معهم على أحد الكثبان الرملية المحيطة بالمدينة، ومع التحول الذي شهده البلد، أصبحوا يسهرون في شقة خاصة بصديقهم ‘عتيق’ ، يسكرون فيها ويمرحون.
وقد اتسمت علاقته مع أصدقائه هؤلاء بحالات من المد والجزر، ربما بسبب وجود ‘ مطر’ من بينهم .
وعلى الرغم من أن أثر هذه المجموعة في مسار الحكاية والقص كان ثانوياً جداً إن لم يكن منعدماً إلا أن أثر جلسات السكر معهم كان عميقا في شخصية الراوي يقول:
‘غيّر الشراب من نظرتي لأمور كثيرة، أدركت في نهاية المطاف أن لا شىء يهم كثيراً... ومع ذلك كنت أدرك أن حياتي تتسرب من بين أصابعي كأساً بعد كأسٍ’
3. علاقة مساعدة: يمثل هذه العلاقة في الأساس كل من حمد وسلمى، رغم تصنيفنا لهما في الأقارب، إلا أن خاصية المساعدة تطغى على العلاقة القرابيه، وإضافة إليهما هناك ‘غادة’ الممرضة، زوجة حمد ، التي أعلنت وفاة مطر بعد تشخيص كاذب، وكان لها الدور الأكبر في ترتيب فرار الراوي من المستشفى.
وإذا كانت هذه الشخصيات جميعها في أئتلافٍ تامٍ وبطرائق مختلفةٍ مع الراوي فما هي ترى الشخصيات المختلفة ؟
ب. الشخصيات المختلفة :
مثلما اختلفت علائق الشخصيات المؤتلفه مع الراوي فإن علائق الشخصيات المختلفة متعددة كذلك ويمكن تقسيمها إلى الأنواع التالية :
1. علاقة امتناع : وهي تشكل البؤرة الدلالية الكبرى في الراوية، ذلك أنها علاقة متولدة عن رغبةٍ مكبوتةٍ وحبٍ مستحيل، وتمثلها حصراً شخصية ‘مزون’ أبنة الجيران التي أحبها الراوي منذ الطفولة، وكانت لهما بين بيتيهما المتجاورين حكايات وذكريات، كانا يلتقيان بعد الغداء في ساعات القيلولةِ ، ثم على سطح البيت ليلاً – بعد أن تكور صدرها – حيث هناك ممرٌ يجمع بين سطحي بيتهما، لم يكونا يسأمان الأحاديث، شىء ما كان يشحذُ خيالهما’ ص 51 ‘، ولما بلغ عبدالرحمن خمس عشرة سنة تقدم لخطبتها فرفضه أبوها بحجة صغر سنه، ثم تقدم لها مرةً أخرى بعد وفاة أبيها فرفضه أخوها بحجة وضعهِ المادي الضعيف، وفجاءة صدم بأن تزوجت ‘مزون’ من أبي أحمد، الرجل الطاعن في السن، فوقع الراوي صريعَ حالةٍ نفسية من جراء فقدها ‘ص 61’، وبدأ يشكك في أصل حبه لها، طوراً يعتب عليها وآخر يبحث لها عن مبرراتٍ، إنها (ضحية نظامٍ اجتماعيٍ ما كان لعواطفها وعواطفي أن يخترقاه ) ص 61 . ورغم ذلك ظلت ‘مزون’ محفورةً في ذاكرتهِ بل في ذاكرة النصِ وجسده، ولعل هذا ما يبرر اتخاذها عنواناً للراوية.
2. علاقة إعاقـة: تمثل هذه العلاقة في الأساس شخصية ‘مطر’ ، فهو الذي وقف معارضاً لعلاقة الراوي’ بمزون’ ولزواجه بها، بل أنه قطع بينهما كل سبل التواصل بأن ( نقل هاتف المنزل إلى غرفتهِ وأقفل عليه ... وأتبع ذلك بقيام البنائين برفع مستوى الجدار الفاصل بين البيتين إلى مستوى شاهق فامتنع (عليهما) الحديث من خلف الجدار أو اللقاء فوق سطح البيت ) ص 55. ولعل هذا ما يبررُ موقف الراوي منه حين تشاجر معه مرتين وحين ترك ‘حمد’ يرمي به في البحر مع يقينه بأنه لم يمت جراء اطلاق ‘سلمى’ النار عليه.
وعلاوة على شخصية ‘مطر’ المعيقة هناك ‘أبو احمد ‘ الذي أخذ من الراوي حبيبته ‘مزون’ وتزوجها، كما أن هناك شخصياتٍ أخرى ثانوية غير مذكورة بالإسم كانت تقف عائقاً أمام الراوي، تمثلت في حراسه وهو في المستشفى.
تلك هي ‘مزون’ الحكاية في ترابط أفعالها وعلائق شخصياتها ومنطق حوافزها.
غير أن تحليل الحكاية في الرواية يظل ثانوياً ما لم يعضد بتحليل الخطاب، ذلك أن الخطاب الراوئي هو محك الابداع ومظهر تجليه، كيف قدم الكاتب مادة الحكائيه ؟ كيف تعامل مع الخصائص الاستدلالية لجنس الراوية ؟ ما علاقة نص ‘مزون’ بنصه ‘دائماً يحدث في الليل’ ؟

3. الخطاب : من البنية إلى السلالة
يعد الخطاب الروائي الميدان الحقيقي للتحليل العلمي المتكىء على الدراسات الشعرية والسيمائية، ذلك أنه من خلاله استطاعت تلك الدراسات أن تبرز الخصائص الخطابية للرواية التي تجعلُ من بنيتها بنية ذات خصوصيةٍ نوعيةٍ يمكن صوغها في عناصر تجريدية تحددُ جنس الخطاب الراوئي وعلائقه بغيره من الأجناس الأدبية. من هنا فإن أى معالجة نقدية لا تنطلقُ منه وعليه تتكىءُ لا يتكل عليها ولا يثنى بها في النقد خنصرٌ. وعليه نتساءل، أى بينة شكلت خطاب رواية ‘مزون’ ؟ وأى تقنياتٍ فنيةٍ استثمرَ كاتبها ؟
وما مدى علاقتها الوراثية بنصه الأول ‘دائماً يحدث في الليل’ ؟
أ. بنية الخطاب : تتكون ‘مزون’ من 134 صفحة موزعة على تسعة فصول، مرقمة بالترتيب ولا تحمل عناوين، وهي فصول تكاد تتوازن من حيث عدد صفحاتها، اذ نجدها تتراوح بين 11 صفحة و 27 صفحة ، وعندما ننظر إلى هذه الفصول من منظور زمني من حيث علاقة زمن الحكاية، أى زمن الأحداث في شكلها ما قبل الخطابي بزمن الخطاب المتحقق في الكتابةِ يمكننا مفصلتها إلى حركتين :
1. حركةٌ أولى : وتمتد من الفصل الأول وحتى الفصل الرابع، وهي مرحلة ما قبل حادثة القتل، وفيها نتعرف على جوانب كثيرة من حياة الراوي (تربيته، علاقته بأبويه، حبه لمزون، انقطاعه عن الدراسة، وفاة والديه ، ممارسته للتجارة ، علاقته بأصدقاءهِ ، عشقه للسكر، .... الخ) إضافة إلى تعرفنا على حيوات الشخصيات الأساسية الأخرى مثل : ‘مزون’ ( طفولتها، لعبها مع الراوي، خضوعها لمشيئة ابويها، زواجها بأبي أحمد، ترملها... الخ) و’أحمد’ ( نجاحه في دراسته، زواجه بغادة الممرضة، مزاولته التدريس ..الخ) وغيرها من الشخصيات الثانوية، كل ذلك عن طريق المفارقات الاسترجاعية، حيث يستعيد الخطاب أحداثاً سابقةً عليه زمنياً، متكئاً في ذلك على آلياتٍ مختلفةٍ كالحذف، حيث يتم اغفال أحداثٍ لا بد أن تكون قد وقعت ولكنها لا تذكر في النص مثل : ( توفي أبي وأنا في السادسة عشرة من العمر ص 56) و ( وبعد أقل من عامٍ من موت أبي توفيت خالتي ص 57، والايجاز مثل (انقضت عدة أشهر وأنا لا أكاد أراها إلا نادراً ص 55) و ( وفعلاً مرت عدة أيام دون أن يظهر ‘مطر’ من جديد ليلاً ص 14).
إن هذه المفارقات الزمنية وما صاحبها من مشاهد وحوارات قد لعبت بزمن الحكاية وكسرت خطيته، كما أنها أعطت للاسترجاع وظيفة بنيوية في الرواية لأن ماضي الشخصيات المذكورة وخصوصاً الراوي هو الذي خلق حاضرها في الخطاب ووجه سلوكها في الحركة الثانية .
2. الحركة الثانية : وتمتد من الفصل الخامس وحتى النهاية، وفيها يأخذ زمن الخطاب طابعاً خطياً متساوقاً مع زمن الحكاية. ولعل هذا ما يفسر كثرة الحوار والمنولوج في هذا الجزء من الراوية، كما يفسر سرعة السرد تمشياً مع تسارع الأحداث، من حادثة القتل ذاتها إلى محاولة التخلص من الجثةِ إلى استجواب سلمى وحبسها إلى تلبس الراوي بالتهمة إلى فراره، وهي أحداثٌ ما كانت لتتسارع سردياً لو لم تكن مهدت لها الحركة الأولى، سواءً من خلال عرض حيوات الشخصيات وعلائقها وحوافز أفعالها أو من خلال بعض الإشارات الاستباقية، كاكتشاف الراوي لمسدسٍ في حقيبة سلمى ص 14 وكارتياده للميناء قصد الصيد.
إن هاتين الحركتين وما اشتملتا عليه من تقنيات فنية – اكتفينا بتسجيلها دون أن نثقل هذه القراءة بالتمثيل لكل واحدة منها – قد اكسبتا نص ‘مزون’ هوية الانتماء للجنس الراوئي ، وزاد من تمكنها فيه ما قامت عليه من تقنية الراوية بضمير الأنا التي خولت للراوي الحضور كشخصيةٍ من بين الشخصيات، وسمحت له بالتالي من التدخل والتحليل بشكل يولد وهم الاقناع.
ولعله من هذه النقطة بالذات نسجل تسرب بعض الخطابات التعليمية والايدولوجية المباشرة في النص على لسان الراوي مما يسرى في السرد أبعاداً عقدية تقعده عن بلوغ غاياته الابداعية ومن أمثلة ذلك : ( تستسترون .... استروجين يطوي هذان الهرمونان سر الانجاب بين الرجل والمرأة ص 53 ) وقوله ( كان يفترض بهذا البلد أن يراعني منذ طفولتي حتى مماتي، إن كانت في موهبة لا يسحقها بل ينميها، إن وقفت في طابورٍ يحترم دوري فلا يخترقه أحدٌ ص 130 وغير ذلك من الأمثلة المنتشرة في جسد النص.
تلك هي أهم السمات الفنية التي تراءت لنا في خطاب ‘مزون’، وإذ يشكل الخطاب الروائي من المنظور السيميولوجي الدال اللغوي والحكاية المدلول، فإن النص يعتبر العلامة التي فيها ينصهران. وبما أن أي نصٍ لا ينتج إلا ضمن بنيةٍ نصية كبرى، تتعدد فيها النصوص وتتقاطعُ وتتداخل وتتعارضُ مما اصطلح على تسميته بالمتعاليات النصية Transetextttualite فإن أي قراءةٍ لا تعاينُ تلك المتعاليات وتتبع سلالتها تعدُ قاصرةً وعديمة النتائج، من هنا مشروعية تساؤلنا عن المتعاليات النصيه التي أنتجت ضمنها رواية ‘مزون’ .
ب. سلالة ‘مزون’
يعتبر التعالي النصي كما حدده جيرار جنت ‘هو كل ما يجعل نصاً يتعالق مع نصوص أخرى بشكل مباشر أو ضمني’ وهو بهذا المفهوم يستوعب التناص ويتجاوزه وقد حدده في خمسة أنواع ، يهمنا منها ما أطلق عليه أسم Hypertexte أي النص اللاحق، وهو يكمن في العلاقة التي تجمع النص (ب) كنص لاحق بالنص (أ) كنص سابق Hypotexte
ضمن هذا النص اللاحق نتساءل عن نوع العلاقة التي تربط نص ‘ مزون’ بنص ‘دائماً يحـدث في الليل’ للكاتب نفسه، هل هي علاقة تحويل أم امتصاص أم محاكاة أم أعادة انتاج ؟
في حوار مع الكاتب نشر بجريدة البيان بتاريخ 16 أغسطس 2000 قال، رداً على سؤال: لماذا توقفت بعد عمل روائي واحد ؟ ‘ لأن احترامي للتقنية منعني، فبعد نشري للعمل الروائي نفسه وقراءتي له وجدت فيه محاور مختله فنيا. لم ينقدني احدٌ في هذا، بالعكس كان النقدُ الذي تناول الراوية إيجابياً في هيكلية الراوية، وكل جهدي من ذلك الوقت في محاولة إصلاح هذا المحور المكسور، لذلك ما زلت أعمل في هذه الراوية حتى الآن ‘ .
فهل إذن ‘مزون’ هي رواية معدلة جينياً من ‘دائماً يحدث الليل’؟
قبل الإجابة عن هذا السؤال لا بد أن نتعرف على الرواية الأولى .
‘ دائماً يحدث في الليل’ رواية كتبها الدكتور محمد عبيد غباش سنة 1974 كما يقول الكاتب عبد الحميد احمد ونشرت سنة 1979 في مجلة الأزمنة العربية التي كانت تصدر بالشارقة أسبوعيا، وقد نشرت في أربع عشرة حلقة ابتداءً من العدد 20 بتاريخ 18/7/1979 وحتى العدد 33 بتاريخ 24/10/1979 وتتناول هذه الرواية مجموعة من الشباب كانوا يجتمعون في بيت أحدهم ‘ احمد’ ويناقشون بعض القضايا الثقافية والاجتماعية، وبينما هم كذلك تحدث جريمة اغتصاب وقتل لطفل يدعى ‘ياسر’ من طرف شخصية ثانوية هي ‘جمعه’ الذي يعد الجناح الأيمن لأبي احمد، وتقوم ‘فاطمة’ أخت ‘احمد’ بقتل ‘جمعه’، ويتحول الجزء الثاني من الرواية إلى محاولة إخفاء جريمة القتل، وذلك بفضل مهارات شخصية مركزية تدعى ‘سالم’ الذي تحركه حوافز عديدة للقيام بعمله، منها أنه سبق أن تعرض لامتهان ‘جمعه’ ومنها حبه ‘لفاطمة’ ، وبعد رمي الجثة في البحر يقوم الراوي ‘خالد’ بتلبس جريمة القتل عن ‘فاطمة’ وينتهى به المطاف إلى الهروب قبل دخول السجن خارج البلد نهائياً.
هكذا يبدو الشبه القرابي بين الراويتين جلياً رغم اختلاف حادثتي القتل واختلاف أسماء الشخصيات، غير أن منطق الحكايتين وأفعال الشخصيات وحوافزها وبنية الخطاب وآلياته والزمن ومحدداته كلها أمور تقول بما لا يدع للشك سم خياطٍ أن النص اللاحق ما هو الا استنساخٌ بالمعني الجيني للنص السابق وتمثيلاً لا حصراً يمكن رؤية تشاكل الشخصيات في الروايتين على النحو التالي :
أبو عوف عبدالرحمن = خالد - الراوي - يعمل في دكان - حب مستحيل
سلمـــى = فاطمة - القاتلة (اخت حمد)
حمـــد = احمد - مدرس
مـــزون = مريـم - حبيبة الراوي
ابو احمـد = ناصـر - زوج مزون(توفي في الحج)
غـادة = ليلــى - ممرضة (زوجة حمد)
وإذا كانت تلك هي الشخصيات وبدائلها في النصين وقد بدت متشاكلة في الوظائف والافعال فإن أثر النص السابق على اللاحق لم يقتصر عليها بل طال جسد الخطاب ذاته، وقد بدأ في ‘مزون’ بالفقرة والصفحة والثنتين وكلما تقدمت في القراءة زاد التماثل إلى أن نصل الفصل الأخير في ‘مزون’ والحلقة الأخيرة في ‘ دائماً يحدث في الليل’ فإذا هو أياها أو إذا هو هي، مع تغيير الأسماء حسب مقتضيات المقام، والأمر أبلجُ من التمثيل. ورغم ذلك فإنا لا نؤول إعادة الإنتاج هذه تكراراً ولا اجتراراً – فهيهات الظن ذاك – وإنما نراه آيلاً إلى أمرين :
1. وعي الكاتب العميق بصعوبة العمل الروائي وبضرورة إعادة النظر الدائم فيه وفق ما استجد من وعي الصنعة وتقنياتها. ولعل هذا ما جعله في الحوار المذكور سلفاً يطالب بتفرغ الروائي لعمله حتى يخرجه قائماً على سوقه، لأن العمل الروائي صلفٌ، تياهٌ ، له أَرنٌ كأرن المهر وإباءٌ كإباء الحرون على حد تعبير التوحيدي.
2. احترام مدارك المتلقي، مما يقتضى ضرورة ‘إصلاح الخلل ‘ على حد تعبيره في الحوار نفسه فلولا هذا الاحترام لما مارس الكاتب على نفسه النقدَ وسعى من ذات بينه إلى إعادة النظر في تجربته، رغم أن أحدا لم ينقده بل على العكس ‘كان النقد الذي تناول الراوية إيجابيا ‘ وتلك آفة من يبري قوساً ليس يحسن بريها، غايته جبر الخاطر ، وما ذاك من النقد بقريب.
ومهما يكن ظننا بالكاتب فإنا نحسب أن ‘مزون’ لا تلغي البتة ‘دائماً يحدث في الليل’ فلكلا النصين من السمات الفنية والدلالية ما يعطيه مشروعية الاستقلال، خصوصاً بالنظر إلى سياقي إنتاجهما وتلقيهما وأثر ذلك على تأويلهما، مما نحسبه موضوعاً طريفاً ثرَ النتائج، يحتاج قراءةً تأويلةً لا تدخل في اختصاص قراءتنا هذه منهجاً ولا أدوات، لأنها أدخل في نظرية التلقي وأمكن في علم الدلالة .
تلك هي ‘ مزون’ وقد حللناها حكاية ، وفككناها خطاباً ، غير أن أي قراءةٍ تقف عند حد النص في انغلاقه الأصم تظل ناقصة ما لم تبحث في تراسله مع سياقاته الاجتماعية والثقافية، وهو ما لم نأخذ به أنفسنا ها هنا، رغم إغرائه لنا وانجلائه في الرواية بطلاً يعيش على الحدود الملتبسة بين وضعيتين مختلفتين ومنطقتين متناقضتين ورائحتين متباينتين وثقافتين متصادمتين، مما يطفح بالدلالة ويغري بالتأويل فهل لنا وقفةٌ أخرى نوفي فيها النص حقه ؟ .




عنوان المقال : فعل السرد والشخصية في الشكل الروائي - الشخصية
فعل السرد والشخصية في الشكل الروائي - الشخصية

الشخصية في العمل الروائي .. أساس، ومحور الحركة الافقية والرأسية في القصة، منها تشع الحياة في أوصال العمل الروائي تغذيه بالقوة، والنماء، والتطور، وتعقد هذه الاشعاعات روابط متينة مع المتلقي، وبقدر ما تكون الشخصية في العمل الفني، حرة وواعية وصادقة في حركتها، وتلقائية في مجابهتها للحياة، عندها يكون العمل الروائي قد اقترب كثيراً من الناس، وتكون شخصياته موارة بينهم، كما لو أن دبيب الحياة يجري في عروقها . بعض النقاد، وإنطلاقا من وعيهم بدور الشخصية في الرواية قالوا ان الرواية فن الشخصية.
والعمل الروائي يقدم شخصيات في حال الفعل خلال فترة متخيلة من الزمن.
رواية (دائماً يحدث في الليل) لمحمد عبيد غباش بها أكثر من شخصية : خالد – الشخصية الرئيسية ثم شخصيات مصاحبة وهي مريم، احمد، سالم، فاطمة، بجانب عدد من الشخصيات الثانوية الأخرى.
وملخص الحدث في الرواية .. شلة مثقفة، تجتمع بشكل يومي تناقش وضعها الاجتماعي المأزوم، وفجأة تحدث جريمة اغتصاب طفل، وقتله من قبل شخصية ثانوية، سلبية هي (جمعه) لكنها مسحوقة اجتماعياً، يقتل جمعه من قبل فاطمة ويتحول الحدث في النصف الثاني للرواية إلى معالجة بوليسية .. لاخفاء جريمة فاطمة، وذلك بفعل مهارة سالم، الذي انضم في وقت لاحق لهذه المجموعة، لنعرف من الرواية، انه كان في صغره، ذات يوم ضحية لجمعة وسيده والد أحمد.
وأنه خطط للانضمام للمجموعة بدافع الانتقام .. وفي نهاية الرواية .. يهرب خالد الذي قدم نفسه على أساس انه القاتل، لانقاذ صديقته فاطمة، ثم يهرب من السجن ثم من البلد نهائياً. مع ان سالم قد وفر له ايضا خيوط البراءة من هذه القضية .. لكنه أثر الرحيل.
في هذه الرواية .. وهي الرواية اليتيمة لغباش تتفاوت الشخصيات من حيث حجم الفعل المناط بكل منها – وهذا منطقي وضروري .. فكل على قدر طاقتها الذاتية والموضوعية، لكن في النهاية تكون هناك منطقية، مقبولة في تحمل هذه الاعباء. انه اختيار حر، وليس اقداما جبريا نحو الفعل .. وإلا ستكون الشخصية خارج نطاق الزمن والمسؤولية.
في رواية (دائماً يحدث في الليل) يكون – خالد – هو الراوي وهو الشخصية الرئيسية في الرواية وهو الكاتب ايضا .. وهنا ينبغي اليقظة والتحفز .. فحين تكون هذه الحالة، فهذا يعني ان ثمة تقلبات كثيرة تحدث بين حين وآخر في سياق الحدث، تقلبات ليس لها سند فني ومنطقي وواقعي، لانها تقلبات ببساطة تحركها الروح الفردية المهيمنة، والمتمثلة بالشخصية الرئيسية. إنها من صنع الرواية نفسه.
وشخصية خالد لم تكن بحال شخصية فردية، متزمته، وديكتاتورية داخل (الشلة) فمن خلال الاجتماعات اليومية ندرك الجانب الديمقراطي في هذه الشخصية، وهو الجانب المتولد، قطعا عن وعي اجتماعي متقدم، فخالد شخصية مثقفة تبحث عن دور اجتماعي فاعل ومؤثر داخل المجتمع.
لنقرأ بعض الاقوال في الرواية : (عندما جاءني سالم في الصباح، لم أكن متحمسا لتوطيد الصلة به الا إلى حد استعراض براعتي في اللعب، لكن نتيجة اللعب معه ادت بي إلى تغيير موقفي، فقد اقتنعت ان كثرة اللعب معه تعني استكشاف اسرار جديدة في اللعبة التي كنت مولعا بها، وهنا جاء دوري لاقترح عليه ان نلتقي في الوقت نفسه غداً، وبعثت موافقته الراحة في نفسي فقد خشيت ان يمتنع بسبب رداءة لعبي معه في ذلك اليوم، ولولا تلك الهزائم التي ألحقها بي لكان من المشكوك فيه ان ينجح سالم في الدخول إلى حلقتنا، وان يطبع بصماته على الاحداث التي تلاحقت علينا فيما بعد، ومن ناحيتي انا لم يتبادر إلى ذهني أبداً ساعتئذ أنه كان يريد أكثر من أن يلعب أدواراً بريئة في الشطرنج) وأتخيلها، لعبة الشطرنج هنا، رمزاً له دلالته السياسية، وأن لهذه اللعبة ظلالا قد نجدها في أكثر من زاوية التقاء بين شخصيات الرواية .. مثلما هي الان، مسرح يتقابل فيه خالد، سالم، ونفهم انه لولا هزيمة خالد، ورغبته في الثأر .. لفقدنا شخصية سالم .. وحين يوافق سالم على إستمرار اللعب مع خالد في اليوم التالي، يشعر خالد بالارتياح .. بمعنى ان ثمة فرصة أوجدها الراوي لذاته ... ليمارس دوره فيما بعد.
من جانب موارب ومن غير وضوح كاف، نستشق ديمقراطية خالد – الرواية في خلقه لهذه الشخصية الروائية حين أوجد مبرراً لوجودها، يحمل قدراً من المنطقية.
ونقرأ في المثال السابق .. ان تكرار هزيمة خالد قابلها إصراره على التمسك بسالم .. وان كنا سنتساءل : ماذا لو أن خالدا إنتصر منذ المرة الاولى على سالم في (لعبة الشطرنج) والجواب سيقودنا قطعا إلى حيرة وتردد، فربما سنخسر سالم .. وهذا يعني ان الوعي الاجتماعي الذي يحاول (خالد) ان يلقنه لنا فيما بعد .. محتاج إلى وعي آخر بجانبه .. وهو حتمية الالتقاء والتقابل، ثم التضاد في حالة الضرورة.
وفي مزيد من الاحتكاك، نصل إلى مفاهيم أخرى تعرفنا بشخصية خالد، منها : محاولة قفزها من فوق الزمن، مستغلة وضعها – كراوية، لتكشف ما سيأتي، ليس كشف الرؤيا، وإنما هو قليل من التعسف باستخدام الحق المطلق (ومن ناحيتي أنا لم يتبادر إلى ذهني أبداً ساعتئذ انه كان يريد أكثر من ان يلعب أدوارا بريئة في الشطرنج) هذا الكشف مقدر لنا ان نعرفه في الفصول الاخيرة للرواية.
وبذات المعنى، هذا لموقف تكرر فيما بعد، لنقرأ (في طريق عودتنا إلى الميناء حاولت ان أتذكر بدقة هذا الموقع حتى يمكن أن آتي مع (الشلة) للصيد في أحد الايام بيد أنني لم أكن أدري أنني سوف أعود قريباً إلى تلك المنطقة البحرية لغرض مختلف تماما .. لم أكن أدري بأنني .. سأشترك مع سالم في عملية اطعام رهيبة لكلاب البحر، إطعامها ليس من بقايا السمك، بلم بلحم بشري ينبض بالحياة). وللتوضيح فإن عملية الاطعام الرهيبة : هي القاء جثة جمعة في البحر .. ومن هو جمعة ؟ نموذج مهمش، ومهشم، مسحوق ومسلوب الارادة من قبل سيده المقاول ناصر، أعطاها الراوي دورا مخزيا في الرواية : مغتصب أطفال، وصياد أطفال لسيدة.
لم أجد أي مسوغ منطقي في عملية توزيع الادوار على شخصيات الرواية من قبل الكاتب الراوي .. فجمعة النموذج الاجتماعي المسحوق .. يسحق مرة أخرى من قبل (الشلة المثقفة)، ويتآمر أعضاؤها على إخفاء الجثة. في حين سيده المقاول (ناصر) الذي كان يمارس إغتصاباته على مسمع منهم جميعاً – كما جاء في الرواية – ارتضى له الرواية – ان يموت ميتة طبيعية وأين؟ في الاراضي المقدسة.
لعل الاجابة (لكم هو مخجل أن نستمد بقاءنا من عدوانية سالم، بينما كنا جميعاً زمرة .. مثقفين عجزة، نجيد الحديث جيدا، لكننا ننهار بسهولة عندما نوضع في مواقف تقتضي العمل).
الآن اقتربنا أكثر من الفهم .. بأن الشخصيات – أعضاء (الشلة) المثقفة ليس ينقصها الوعي الاجتماعي بصيغته العملية فقط، بل كذلك، هي شخصيات بلا فعل. وقد جاء هذا التصريح الخطير على لسان الرواية .. (وعندما إقترحت فاطمة ضرورة السير في طريق الفعل، هشمناها جميعاً بثرثرة ذكية، مثقفة، حتى وصل الحال إلى ان يتهدد بقاؤنا، ونبقى عاجزين).
ثم نصل إلى لب الحقيقة، ونكتشف ان وعي (الشلة المثقفة لم يكن متجذراً داخل المجتمع، كان وعياً معزولا، مستغرقاً في ذاتية مغلقة. بالضبط هي (الشلة) كما وصفها الراوي، لم تكن منفتحة على الناس، وعلى الشارع، وكل علاقتها بالمجتمع مبنية على أفكار مثالية معلقة في الفضاء.
وبلا مواربة – واحتماء خلف صيغة الجمع، يعترف الراوي على نفسه .. وهنا تتوهج الشخصية الرئيسية من الداخل، وتلبس ثوباً حزيناً، غاضباً، متمرداً. يتقرب من حد الثورة .. ولكن من الداخل .. أجل من الداخل، انها حالة نزق يقول :
(كان هناك غضب عارم يملؤني على (احمد) الذي قلم مخالبنا جميعا بمقص الثقافة و(على عوض) الرجل ذي التاريخ النضالي والذي جاء يستريح فيما بيننا بدلا من إيقاظنا من الوهم، ومن بينهم كنت الأسوأ اللاهث أبداً وراء الكأس، والعاشق المتيم صبابة، والذي هجرته حبيبته وتركته ركاماً انسانياً، والذي ظل يتمتع بركاميته، وباجترار بؤسه بتلذذ مريض.
تلك الاعترافات، ضرورية ولابد منها، لانها تشير بتهمة صريحة لمرحلة بعينها، على فئة وعت حالتها، لكنها عاجزة، ارتضت العجز مستلبة من داخلها قبل استلابها من الخارج.
ونكتشف كذلك ان الشخصيات بالرواية، لا تملك أدوات الصمود، هروبية في اول مواجهة مع الواقع .. بصورة أوضح نقرأ ذلك في شخصية خالد، فهي إلى جانب انها مرتبكة، ومضطربة إلى حد المرض كنا نتوقع بحكم (سيادتها) المطلقة في العمل .. ان تقودنا إلى زاوية بها بارقة أمل، وتنطوي على فعل بأي شكل، حتى لو كان جنونيا، غير اننا أمام هروب، نتفرج على عملية هروب واعية، وبلا تردد :
(منذ ان أخبرني سالم بامكانية رجوعي إلى المدينة، والضيق يتنامى صدري، كان جواز سفر جمعة يعني عودتي إلى المدينة، والى كل السجون الاخرى التي أفلت منها هذه الليلة، من مريم وخيالات العشق المريضة، ومن احمد وسجنه الذهبي النظيف، الذي كان يعزلنا عن قبح ما حولنا بجدران الفن والثقافة والعلاقات الاجتماعية المتطورة، حيث كنا نرتاد بيته ونلتقي رجالاً ونساء دون حرج، بينما المتجمع حولنا على نقيض تام من اسلوب حياتنا، ذلك المجتمع الذي يحترق ويكتب تاريخه ببطء بنفسه، والذي لو مددنا أيدينا إليه لربما كنا نهون من جهله ومن مرضه ومن ظلمه.
كنا نمارس حريتنا، بينما يرسف غيرنا في الاغلال. كان الفرار من هذا السجن ضرورية مصيرية، أدركت ان انعزاليتنا بداخل هذا العالم المصطنع الصغير كانت جريمة ليست في حق الضحايا الذين يعيشون خارج عالمنا وحسب، بل في حقنا نحن الذين توهمنا ان خلاصنا الفردي يمكن ان يسهل دونما حاجة للخلاص الاكبر، خلاص المجموع.
الشخصية الراوية، التي ملكت زمام السيادة في الرواية تهرب من الواقع ومن ارض الواقع، إلى بلد آخر، إلى الهند .. (الهند مدرسة يمكن ان تعلم المرء استعادة إنسانيته المدفونة تحت ركام حب الذات والتعامي عن رؤية الاشياء هي مسرح رهيب للالم الانساني، للمجاعة والمرض والجهل).
وكي يضمن الراوي نجاح هروبه التام عن مجتمعه، وعن ارض الواقع الذي يؤرقه .. أحرق أخر وسيلة يمكن ان تعيده يوما .. كي يتشاكل بطريقة أخرى مع مجتمعه .. أحرق جواز سفر (جمعة) بعد ان رتب سالم بطريقة غير مشروعة .. ليصير هذا الجواز باسم خالد : (لكن عملي كان ضروريا .. القيت الكتلة المشتعلة في مطفأة السجاير واخذت اقلب اوراق الجواز حتى تصل النار إلى جميع صفحاته .. بعثت رائحة الحريق الصغير راحة وطمأنينة عميقة في نفسي .. كانت هذه الرائحة تعلن (احتراق) عبوديتي .. كانت تعني الابقاء على حريتي، بعيداً عن تلك المدينة المشؤومة، التي سرقت اعز عمري وهدرته .. كانت الرائحة تعني عدم الالتفات إلى الوارء أبدا .. ومن جديد ازدحمت ذاكرتي بصورة طارق بن زياد وهو يحرق السفن).
وخالد في سبيل البحث عن حريته، يترك بلده، يهرب من مدينته، فالحرية إذا ما غابت في هذا المكان، قد توجد في مكان آخر، هذا هو منطق خالد .. مع أننا تلمسنا داخل الرواية ان الوصول إلى الحرية يقتضي تضحية وجهداً .. لكنه ولاسباب قاهرة جدا، يجزم بانه لن يعود .. وقد أحرق وسيلة العودة : هل نفهم بانها حالة من الانسانية المطلقة لا يحدها ضفاف ولا جغرافية، ولا مكان ام هو فهم خاص به، بخالد، قناعة وصل اليها بفعل تراكمات تاريخية متعاقبة .. بان هذا (المكان)، هذه (المدينة) في العالم أبداً لا تعرف الحرية، وان كل من يطلبها فهو مارق ومأفون (ومرت في ذاكرتي لحظتها صورة طارق بن زياد وهو يحرق السفن التي أقلته وجنوده إلى أسبانيا، ضامنا بذلك الا يدفع الضعف، ذلك ما كان يرعبني، الضعف الذي يمكن ان يعيدني برجوعي إلى المدينة إلى كل الاقفاص التي تسرق حريتي .. اغراء لذة العبودية التي تخلقها الذات المدمنة للعبودية حتى جذورها) قمة الغضب يصل اليها خالد، لكنه غضب سلبي، وفي الاتجاه المعاكس لمنطق الامور .. فالانسلاخ عن المكان بحكم (ظرف) اجتماعي، أو سياسي طارئ، من الصعب ايجاد مبرر له، فطارق بن زياد حين احرق سفنه، كان قد حط بقدمه على أول الهدف، وأراد بإحراقه السفن .. ان يخلق شجاعة أخرى، تثبت أقدامه على الهدف كله.
وحين نرصد علاقة شخصيات (الشلة) بمدينتها، بمكانها وزمانها، نضع ايدينا على حالة انفصام اجتماعية ونفسية مع بيئتها .. فلا نجد (المدينة) في الفضاء القصصي للرواية، إسما أو عنواناً أو ذكرى .. وان كانت قد وردت اشارة حول هذه المدينة (هم يعرفون ماضي عوض السياسي في ضفار وهم ايضا يرقبون تحركات فاطمة منذ مدة بعيدة، منذ ان رأوها مشتركة في تنظيم مظاهرات الاحتجاج ضد ايران التي قامت بها فتيات المدارس في اعقاب احتلال ايران للجزر الثلاث).
الا ان هذه الاشارة غير كافية لوحدها .. لاعطاء دلالة على ان الشخصيات تعيش في مكان وزمان محددين. وثمة علاقات جدلية تربطها في هذه البيئة .. منها ان علاقة هذه الشخصيات .. بمدينتهم علاقة غير جدلية .. لكنها مع ذلك تعيش وضعا نقديا مع هذه المدينة وتدرك كثيرا من القوى المحركة لتاريخها، ولعلاقاتها الاجتماعية، وقد يكون تحوصلها في (شلة) منعزلة عن المجتمع استجابة واعية، لكن ليست عملية، للتحدي المفروض عليها، غير ان هذا هو أدنى أشكال الرفض. فقدر الانسان ان يحتك بصورة دائمة مع المشكلات التي تحيط به .. وهذا هو أساس التطور الانساني نحو الافضل. وما يميز شخصيات هذه الرواية .. ان نموها يتجه متصاعدا نحو الداخل وفعل الاستجابة تجاه واقعها يأخذ حالة التضخم والسلب .. حتى تعلن الشخصيات هروبها النهائي من المواجهة، تعلن هزيمتها، وان كانت تحمل معها .. إدانة وكشفا مريرا لواقع مؤلم، وإذا كان هرب الشخصية الرئيسية فيه معنى (المناوشة) من الخارج، فهي بداية قد تكون صحيحة، ونتلمس ، مؤقتاً، العذر لهذا الهروب بشرط ألا يتحول هذا الهروب إلى هجرة دائمة تحت ستار ان الانسان يستطيع ان يبحث عن حريته في أمكنة اخرى في العالم .. تاركا مكانه. يقول شاعر سوفياتي ( تستطيع ان تحب هذا العالم الواسع فقط حين تحب المكان الذي ولدت فيه، المكان الذي فيه قطعوا حبلك السري).

* * *

شخصية (صارم) في رواية الاعتراف لمؤلفها علي ابو الريش، تبدو طرية وغضة، ويانعة، برعم اجتماعي على وشك ان يتفتح، لكنه محتاج إلى رعاية وصبر .. وهو نموذج شائع مألوف في مجتمع الامارات .. والمجتمعات الخليجية، بل ويشكل نسبة كبيرة من الشباب حتى سن العشرين.
وملامح هذه الشخصية، مرسومة من الخارج، وعندما نقترب من هذه الشخصية، كي نتعرف على توترها، انفعالاتها، وفرحها، وحزنها وخيالها ولا نعثر على شيء من هذا القبيل.
وقصة الرواية : صارم يفاجأ بمقتل أبيه سهيل، في بستانهم برأس الخيمة ورغم حداثة سنه، الا ان (صارم) يوهمنا في أكثر من فصل بأنه سيأخذ بثأر أبيه .. لكنه سرعان ما يتجه إلى الحب، هو وصديقه (محمد) .. الشخصية الرئيسية الموازية تماماً لشخصية (صارم) والذي يقع في حب (ريحانة) أخت (صارم) وهكذا تمضي القصة وجسد الرواية عرض تفصيلي مطول لمعاناتهما في الحب بجانب معاناة (محمد) من أبيه سمحان وهو الاب القاسي على أبنه والذي يعترف وهو يحتضر بانه قتل (أبا صارم).
والحق، ان اختصار الرواية، في سطور قليلة يعد (انتقاصا ادبيا) لانها عملية تقزيم وتشويه فني لشخصيات تعيش حياة عريضة من الالم، والفرح، والحزن، والهزيمة والانتصار، وبداخلها شبكة هائلة من العلاقات الخارجية والنفسية .. وضغط عمل روائي عظيم أو متواضع فيه تعسف وقسوة، وهي محاولة لاظهاره بصورة كاريكاتيرية ممسوخة.
و(صارم) نموذج يعيش حياته بطهر شجرة النخيل، وباسق مثلها بدون (تفرعات) إنها (حالة) واقعية على الأغلب، بهذا الشكل وعلى هذا النحو من المضمون .. فقط نلقي اللوم على الراوية الذي صاحب صارما، ومحمدا، متنقلا معهما بين الفصول، حيث ترك هذه النماذج تهيم على سجيتها من غير ضوابط على نحو طيب ومغرق في الطيبة، لدرجة تبعث الخوف على هذه النماذج من ان تدمرها الطيبة وهذا التعامل السمح مع الحياة. فالرواية عمل فني منظم بالنهاية .. وتنظيمه نابع من انتقائيته الذكية والموحية، ومن خلقه لنماذج مليئة بالحياة والواقع والتوتر والفعل مفعمة بالاستجابة والرفض .. وحياتنا العادية، بكل سخافاتها، أبداً لا تصلح كما هي. كأعمال روائية، لكن ثمة جوانب في حياتنا، نعيشها ونعرفها، لكنها معتمة ومضللة محتاجه إلى كشف وتنوير. (فالفنان هو ذاك الانسان الذي عرف ان يختار مضمونة الروائي).
ويقول أحد النقاد المعروفين (دعنا نتعلم شيئاً من الرواية، ففي الرواية لا تستطيع الشخصيات القيام بأي شيء سوى العيش، واذا تحتم عليهم ان يكونوا طيبين بموجب الصيغة المطلوبة فقط، أو سيئين بموجب الصيغة المطلوبة او حتى ان يكونوا متقلبي المزاج، أو بعيدين عن الهموم بموجب تلك الصيغة المطلوبة فإنهم لابد سيتوقفون عن كل ماله صلة بالحياة وسوف تموت الرواية تبعاً لذلك .. ينبغي على الشخصية ان تمارس (الحياة) في اية رواية، والا فهي شخصية لا تعني شيئا).
وممارسة الحياة – ليست سهلة، ولا تسير في اتجاه واحد وحين نتابع حياة (صارم) نشفق عليه، فهو دائم التمني واللوعة كي يتزوج محبوبته رحاب، وقد تكون هذه غاية مقبولة لو أنه اقتحم في مسعاه هذا أبواب الحياة المختلفة والمتناقضة الموصلة لهذه الغاية، غير ان طفولية غريرة ظلت تصاحبه حتى النهاية.
(اغرورقت عينا (صارم) وانسحبت على وجنتيه بشرة قاتمة، وشت عن إحساس بالفجيعة والام والحزن، وجلس غارساً سبابته في خده .. شارد الفكر مسلوب اللب، مفجوع الوجدا، ولكي تأتي السيدة بسيرة رحاب يحس بانصهار اعصابه وذوبان قلبه شوقاً ووجداً، ولا يجد منها فكاكا .. تأفف في ضيق وضجر وتأوه في زئير مخيف خفق له قلب السيدة واشتد فزعها عليه. وقالت لا تكن كأنثى ضعيف الارادة تصلب يا بني وكل شيء سيكون على ما يرام بإذن الله ولا تخف، فالمسألة لا تستحق كل هذا الاضطراب والوجل واستعن بالصبر واستعذ بالله من وساوس الشيطان الرجيم .. كانت كلمات السيدة تنزل على قلبه كقطع الثلج في صيف حار متوهج لكنها سرعان ما تذوب وتشتد سخونتها بفعل الحرارة المنبثقة من وجدان صارم) .
قد نتوهم بعد قراءة هذه الفقرة الروائية، بان (صارما) قد اكتمل نضجة منذ زمن، أو ان .. (رحاب) تجسد رمزا ما، يسعى (صارما) للوصول إليه قاطعاً كثيراً من التحديات كي ما يصل إلى رمزه .. ولكن الصورة تهتز حين ندرك ان (صارما) ما زال يافعا في عمره، وبحدود السابعة عشرة أو اقل، اذ أنه لم يكمل بعد دراسته الثانوية، وهو ما يعني وفقا للتقسيم العمري الدولي الحديث انه ما زال تحت سن البلوغ .. إذا نحن أمام تصوير كاريكاتيري للشخصية امام هذا الحدث .. وهو حبه لرحاب! كذلك شخصية (محمد) التي عيش ذات الحالة، وبنفس العمر تقريبا .. تأخذ حياتها .. مساحة موازية، لتلك التي تحتلها حياة (صارم) في الرواية !! إضافة إلى ان الشخصيات المصاحبة والثانوية في الرواية، مسخرة جميعها لتهيئة المناخ الطري لتحقق هدف هاتين الشخصيتين.
والراوية، والذي نفترض انه لابد ان يصير (عقل) الرواية، نجده منسجما تماما مع المسكلية الصبيانية لهاتين الشخصيتين .. يفرح لفرحهما .. ويلتاع للوعتهما...
ويخلق المبررات الحارة لكي يقنع المتلقي بصحة هذا السلوك وعقلانيته، لنقرأ على لسان الراوية (إذا كان للحياة طعم لذيذ ومذاق شهي، فهي مساخة لاذعة لا تجرعها الحلوق لو فقدت اشباعاتها العاطفية أجل ليست الحياة التي تزخرف بشهادات المدارس والجامعات، كفيلة بأن تجلب السعادة إلى نفس البشر وإنما الحياة، حياة الكمال والجمال والدلال والحب الوافر الغني بالعواطف الجياشة المشاعر الحانية الرقيقة إذا كانت عين القدر غفلت عنه ذات مرة، وأفسحت المجال للاصابع الدموية ان تسلب منه أغلى رصيد في حياته احتفظ به فلا داعي لان تضيع منه درة الزمان وكنز الحياة وأمل المستقبل) يقصد حبيبته رحاب ....
ثم نقرأ انسجام الراوي مع هذا الوضع الروائي للشخصية أو قل تواطؤه، (وينهض صارم على حس صرخة مدوية تنبعث من أعماقه، لكنه يخمدها في صدره، لتموت كما تنتحر أشواقه في كل يوم، وبالاحرى كما ذبحت آماله الحية ظلماً وبهتاناً في اللحظة التي قال سيف (ابو رحاب) انه لا يزال صبيا وأمامه مستقبل هذا طالما ظل الفكر مشدوداً، والنفس مأسورة قيد الاماني الباهتة والأمال الغامضة التي لا يعرف متى تتحقق؟ ومتى يصبح الخيال حقيقة؟)
وهكذا في الرواية كلها (صارم) و(محمد) يتألمان من الحب، ويتلذذان بلوعته على نحو مضحك والراوية يدفعهما لمزيد من اللوعة الساذجة، المسطحة وبدون ان يترك لهما فرصة يلتقطان أنفاسهما لمناقشة هذه الحالة العاطفية الغضة بمنظار عقلي بل يسوقهما نحو تحقيق الهدف ويحل لهما العقد الصغيرة التي تعترض طريق هذا الهدف وهو الزواج ويتزوجان فعلا. مع نهاية الرواية (وتم زواج صارم من رحاب، وعاش صارم مع أمه في بيت واحد في حين انتقل محمد بن سمحان مع زوجته (أخت صارم) إلى بيت أبيه ليعيش محمد من جديد في مأواه الاول ويعود صارم مع زوجته في بيته.
بيد أنه ظل يعيش نفس المأساة التي زرعها سمحان في قلبه وغاب عنه دون ان يفسر ذلك اللغز الذي سيطر على مخيلة (صارم) إلا بعد انقضاء العمر .. وعاش صارم رغم معرفته بالمجرم الا ان عقدة الذنب، والعجز عن النيل من قاتل أبيه ظلت تلاحقه مدى عمره.

* * *

شخصيات رواية (السيف والزهرة) لعلي أبو الريش .. جاءت أكثر التصاقا بواقعها .. وبيئتها من شخصيات (الاعتراف) . كما انها اعمق إدراكا لهذا الواقع، وقد حاول المؤلف بمقدار تطور أدواته الفنية، ان يغوص أكثر في اعماق الشخصيات : (خلفان، وابنه سلطان، وأبو صالح)، وان يرسم (حياة) هذه الشخصيات من خلال علاقتها بالحياة، والناس، والمجتمع مرتكزاً هذه المرة على (مضمون) واقعي تحاول شخصيات الرواية الحياة داخله.
كتب الناقد (يوسف خليل) عن هذه الرواية (السيف والزهرة) كانت خطوة إلى الوراء من (الاعتراف) فالمؤلف كثيرا ما يتناقض في القص : سلطان مرة لا يعرف السباحة مرة اخرى ماهر في السباحة قارن بين ص17، ص34 وفقد التداعي اسباب وجوده بالتمزيق الذي حدث مثلاُ في ص35، كما ان تركيز المؤلف على اليومي العابر وعدم قدرته على القبض على التاريخي جعل القضية التي يطرحها زائفة والشخصيات مخلخلة والادوات الفنية جرداء.
وأعتقد ان قراءة (يوسف خليل) للنص كانت متعجلة بعض الشيء، وكان تحليله للنص ممارسة مغلقة. وحين عدت إلى ما ذكره عن (سلطان) من انه مرة لا يعرف السباحة ومرة أخرى ماهر فيها .. وجدت أنه ليس هناك أي تناقض في النص مثلما يقول الناقد .. ففي ص 17 نقرأ (خلع أزراره وقميصه ورماهما بجانب قضيب حديد حتى لا يضل مكانهما، قفز بسرعة مذهلة وانسل في جوف الماء كسمكة أطلق سراحها في البحر لسبب ما، وصار يسبح على ظهره بخفة ومهارة .. ) هنا سلطان ماهر في السباحة ونقرأ في ص/34 (كانت تخوفني دائما من الماء، من الغرق، من الموت في جوف البحر تذكرني بكثيرين من أبناء الحارة الذين ذهبوا ضحية لهذا البحر، حتى اصبحت أخشاه كثيراً أعتبره الوحش المفترس، ومع أنني كبرت وتعلمت فنون السباحة .. ومهما غطست في الماء ولعبت فلن أغرق لانني أعرف طريق النجاة لكنني لازلت أخشى البحر، أخاف من الموت في جوفه ..)هنا أيضاً سلطان يعرف السباحة، فأين التناقض في القص كما ذكر يوسف خليل؟ ثم ان التداعي لم يفقد أسباب وجوده بالتمزيق كما ذكر في ص/35 .. بل هو تذكر. لطفولته المبكرة مع امه، والبحر، والمدرسة.
والتذكر هنا يجيء منسجماً مع الحدث وهو موافقته لأبيه في رحلة صيد على قاربهما .. فحين ينشغل أبوه بالتجديف .. فسلطان اليافع في تلك اللحظة .. ليس لديه ما يشغله سوى ان يطلق العنان لاصابعه تعبث بالماء، والتذكر.
ثم لم أفهم قصد الناقد في قوله، ان المؤلف يركز على اليومي العابر .. ولا يقبض على التاريخي، واتساءل عن الحدود الفاصلة بين ما هو يومي عابر ..
وما هو تاريخي؟ حتى ينعكس ذلك (بالزيف على القضية التي تطرحها الرواية كما يقول. الصحيح أن (تحليل النص أبعد ما يكون عن ممارسة مغلقة، إنما هو في استقرائه للعمل الادبي مشروع إنفتاح قصصي على مستلهماته المتنوعة التي تشكل في الحقيقة عدّته في سبر أغوار النص وفي تتبع متاهاته).
والقصة تصور حياة اسرة – الاب خلفان وابنه سلطان، والأم موزة – دخلها الرئيسي صيد السمك. ومع دخول النفط كعنصر اقتصادي في نمط الحياة الاقتصادية، يلتحق سلطان بالعمل الوظيفي في إحدى الوزارات، رافضا العمل كصياد بعد موت أبيه، سلطان ومديره، ثم أبو صالح يواجهون مشكلة برزت مع هذا التغيير الاقتصادي المفاجيء .. ولكن بوجهات نظر متباينة، وحين يتفاقم خطر مشكلة إجتماعية أفرزها النفط وهي العمالة الكثيفة والضاغطة سلبا على المجتمع .. يتصاعد إحساس مرير ومتردد في نفس سلطان، من خلال دوره الوظيفي الراصد لهذه المشكلة .. وهو المطلع على أسبابها ودوافعها ونتائجها ايضا، اذ انه مدير لمركز التدقيق والبحث الاجتماعي في الوزارة المسؤولة اصلا عن وجود هذه المشكلة.
وشخصية (سلطان) تبقى ظلاً لشخصية والده – خلفان- كان تابعا .. لأبيه ثم عاكسا لبعض ملامحه، وفي كلا الدورين اللذين تمارسها شخصية (سلطان) لا نلمس فاعلية تذكر لهذه الشخصية على صعيد التطور الدرامي .. وكان هذا منطقياً في (سلطان) ما زال صغير السن، لكنه يختزن في ذاكرته مرحلة بكاملها. مرحلة البحر، وصيد السمك، (في ديوانية ابي صالح، لم يكن لصغار السن مكان في هذا المجلس، ما عدا سلطان الذي كان يصطحبه والده معه في أي مكان يحل به، شعر سلطان أنه بحاجة إلى البكاء .. الصراخ، يريد ان يولول كما تولول النساء عندما يفقدون عزيزاً. الوجوه يكتسحها حزن مشوب بالرعب، الأعين زائغة تحملق في لاشيء .. لم الخوف؟ لابد أن هناك سراً ما يختفي وراء الأجفان المسبلة .. أو أن قوة خفية زعزعت هؤلاء الآمنين، حدج سلطان في والده في حين رماه الآخر بنظرة واجمة دلت على مخزون الأسى الكامن في صدر الرجل العجوز. شق حاجب الصمت انبرى من صخرة متعبة :
- أبو سلطان :
رفع خلفان بصره في وجه أبي صالح وقال : نعم يا أبا صالح. هل لك ان تحدثنا عن الكارثة؟
وسلطان وقف على بداية الكارثة، وهي تهريب العمالة عبر البحر، وقذفها بأعداد كبيرة على الشواطئ. وقد شهد مع أبيه مرة في عرض البحر واحدة من هذه العمليات وهو وإن كان صغير السن إلا أنه بفطرته .. يستشعر ان ثمة خطراً من نوع ما، يهدد باقتلاع وجوده.
وأبو صالح، صاحب الديوانية يحتك مع هذه المشكلة، وهو منذ بدايتها، يتعامل معها بمنطلق الرفض (فكر أبو صالح قال : البحر أصبح ملكاً لغيري يعيشون فيه ويسرحون ويمرحون، لا أحد يتصدى لهم، ولا أحد يجازيهم .. لا نعرف عن المشاكل الا عندما تقع فنصاب بالجزع ونظل .. خائفين على أرواحنا وخيراتنا).
كما ان شخصية ابي صالح تحمل معها رؤية واستكشافاً للمستقبل، فهي تدرك واقعها الأني. وتشرف منه على ما سيأتي.
وشخصية (خلفان) تبدو صلبة وعنيدة وقاسية بفعل التصاقها الحميم مع البحر، وترفض ان تتعامل مع المعطيات السهلة الجديدة في الحياة الاقتصادية. ونقرأ هذه الملامح من خلال سلطان الابن الصغير، الذي لم يدخل بعد مرحلة الفعل (اجل فان ابي من هذا الشعب القوي العنيف .. الصامد .. الذي لا ينكسر .. الليل العابس الذي ينثره الخوف في عيني لا مكان له في عين ابي. القيد المكبل لا حيلة له أمام ساعدي ابي المحروقين. القوة تتدفق من عينيه كالشعاع المنير المنبعث من سراج مرفوع على قمة جبل .. الليل والنهار سيان، والبحر والبر لا يختلفان أبداً أمام عيني أبي. أنه القوة الخفية التي تتجلى في جلد إنسان ووجه مخلوق عادي الملامح، بسيط القسمات).
وخلفان يلتقي مع أبي صالح، باحساسهما بالخطر القادم على الأرض، والمجتمع وعلى الاجيال القادمة. (أنا لا يخيفني شيء مثلما يخيفني هذا الغموض .. مصير أولادنا مهدد بالخطر والأرض لا تحتمل وجود الاغراب، أما البحر فكيف سيتعامل مع هؤلاء وهو مجبول على الحب والصدق والاخلاص. كيف سيكون حاله لو تأكد له أن ما يجري ما هو الا تمهيد للشر القادم؟
وعندما يموت (خلفان) الأب والذي كان يمثل نموذجا لمرحلة قديمة جاءت بعدها مرحلة جديدة، مرحلة النفط، يأخذ سلطان الابن فيها دورا فاعلا فيصير مديراً – لمركز التدقيق والبحث الاجتماعي – وهذه المسؤولية لهادلالتها الموحية . . وتصب مباشرة في مجرى الحدث. ومع هذا (الموقع الاجتماعي) غير المتوقع لسلطان تبدأ حالة الانكسار. فالموقع وفر له حياة مادية سهلة ومجانية ولا تتطلب جهداً مضنيا، كما كان يفعل أبوه وهو يصارع البحر. وفي هذا الموقع. كما جاء على لسان (سلطان) مكتب وثير، ووفرة مادية، وبذخ، كل هذا بدون تعب.
ويصل انكسار الشخصية ذروته، حين تحتك بالمشكلة الاجتماعية الخطيرة. العمالة الغربية من واقع مسؤوليته .. لنجد أن هذا النموذج يتعامل سلباً مع هذه المشكلة، ويعتبرها واقعاً مريحا ولابد منه، بل هي إحدى النعم التي سيقت لهذا المجتمع :
(فكر سلطان .. ما يقوله المدير كلام سليم، فلولاهم كيف سيتم بناء الوطن. العمارات .. الشاهقة، الشوارع المرصوفة، الشركات الضخمة، البنوك، حتى صغار الموظفين والعاملين من سائقي سيارات الاجرة، والفراشين نحن بحاجة إلى هؤلاء .. بدونهم ستشل حركة العمران في البلد ولن نجد من يخدمنا ويوفر لنا حاجتنا بسخاء .. المواطن لا يستطيع ان يقوم بهذه الاعمال الشاقة وان استطاع فهو لا يفهم في كثير من الامور .. معظم الناس جهلاء لا يمكنهم تقديم هذه الخدمات، كل الناس انشغلوا بالمكاتب والشركات الخاصة والمؤسسات التجارية ولم تعد لديهم الحاجة لان يشغلوا المناصب البسيطة). هذه الأفكار، والتي منها تمر خيوط المشكلة الاجتماعية، كونه ليس بريئاً من المسؤولية، تتواجد بجانبها ملامح من الحيرة والشك في صحة ما يفعله، أو يفكر فيه، فنراه في حالة من التردد والقلق، بين استمرائه لواقع الوفرة المادية، وبين ما تختزنه الذاكرة من انسجام وأمن، وراحة بال مع البحر : (مضى ساعتان أو أكثر، سلطان غارق في هذا الخضم الهائل في الحجرة عروس تزينت بأحلى الحلى، صوت المكيف حجب عنه الأصوات خارج غرفته، الاثاث الضخم يكاد يكون صورة طبق الاصل لمكتبه الفاخر أه كم أنا حائر .. الدنيا جميلة رائعة عندما تغتسل العينان بهذا الجمال والروعة. كيف يمكن ان اخوض مجاهل البحر المخيفة بعد ان ألفت نفسي هذا النعيم؟ كيف .. كيف ..؟ وتزداد حيرة سلطان بفعل ضغط ابي صالح وجلاسه في (الديوانية) من الناس البسطاء الذين ما زالوا يعيشون مرحلتهم الانتاجية كصيادي سمك، هؤلاء كانوا ينظرون بعين الإدانة (لسلطان)، حين كان يجالسهم . وكانت نظراتهم تخترق ذاته، فتزيد من حيرته ومن قلقه بالضبط، سلطان – وان كنا نفضل ان يطلق هذا الاسم على أبيه، وبالعكس – نموذج يعبر عن جيله، أو جيل من الشباب الذين عاصروا وعايشوا، نقطة تحول اجتماعي بين مرحلتين قاسيتين، فلا تأخذنا الدهشة إذا حين نسمع سلطان في آخر الرواية يقول (آه كم أنا حائر ومتعب ..).

* * *

(جروح على جدار الزمن) حكاية يرويها لنا علي محمد راشد، بطريقة مبسطة جدا وعلى حساب فنية القص، فالحكي العادي لقصة .. أي قصة، مهما عظم مضمونها، لا يشكل قصة فنية .. فما الحال إذا كان الكاتب يقدم لنا حياتها، ناقلاً هذه التفاصيل القصصية بسذاجة وغير تدبر في انتقاء هذه التفاصيل أو في طريقة عرضها .. (ان غاية القصة اليومية تكمن، بالتأكيد، في الا نحتفظ سوى بالمهم، أي ما كان ذا دلالة، وما يمكنه ان يحل محل الباقي لانه يدل عليه، وبالتالي نستطيع ترك الباقي في طي الكتمان فنطيل الكلام عن الأساسي، ونمر مرور الكرام على الثانوي).
وانطلق من اشارة ان الكاتب لم يذكر على غلاف الكتاب، قصداً أو سهواً، عما إذا كان هذا النص رواية أو أي شيء آخر .. لأقول : ان هذا العمل المنشور تحت هذا العنوان : (محاولة) لكتابة قصة فنية، وينبغي ألا يكون إخفاق الكاتب فيها .. يشكل إحباطاً، بقدر ما يكون (قضية) طرفها خاص بالكاتب، وطرف .. يتعلق بالوضع الثقافي العام، الذي هو في طور التغيير نحو الافضل وهو ما يجرنا لسؤال : لماذا يتسرع بعض الشباب في الامارات، لنشر أولى محاولاتهم الابداعية .. فعملية (النشر) مسؤولية ثقافية (اجتماعية) يتم تسجيلها.
لكن .. ومع اعتبار ان أي ساحة ثقافية لا تخلو من هذه التجاوزات لسبب أو لآخر .. فان .. (محاولة) على محمد راشد هذه، يمكن تسجيلها في رصيده الفردي كمرحلة اولى في انتاجه القصصي.
وفي روايته الثالثة (ساحل الأبطال). نقرأ عن شخصيات تاريخية، كانت قد لعبت دوراً في تاريخ امارة رأس الخيمة في بداية القرن التاسع عشر. وقد تمثل المؤلف في هذه الرواية تاريخا محدداً وموثقا لفترة زمنية عن رأس الخيمة، ناسجاً حول هذه الفترة قصة إمتزج فيها الواقع التاريخي الموثق، بالخيال، فنرى بجانب تخيلات درامية وقائع ووثائق تاريخية صحيحة، وبأسماء شخصيات حقيقية. والأدب العربي الحديث به العديد من الروايات الفنية التاريخية التي سردت تاريخا لاحداث و أشخاص.
وقد نشأت الرواية التاريخية في العصر الحديث، تعبيراً عن الإحساس بالقوميات الناشئة، والتنبه إلى تاريخها وأمجادها، وقد ظهرت الرواية التاريخية في ادبنا المعاصر في ظروف مشابهة. أيضاً لم يتخلص الكاتب في هذه الرواية، من طريقة (الحكي) العادي في سرد الأحداث التاريخية، والذي انعكس بدوره على بناء الشخصيات في الرواية، فلم يلق بالاً إلى النسيج الداخلي المكون لهذه الشخصيات، فنراه يذكر تحركات شخصياته، كما يرويها مؤرخ، وليس كما ينسجها فنان، فجاءت الرواية بشخوصها أقرب إلى مذكرة تاريخية لمؤرخ عربي. (استمرت المعارك البحرية سجالا بين سفن أسطول القواسم والسفن البحرية البريطانية لذا قررت السلطات البريطانية في الهند تصفية الحساب عسكرياً مع القواسم بصورة نهائية، وقد بوشر بالاستعدادات اللازمة لهذا الامر منذ فبراير 1817، حينما اصدر الحاكم العام للهند المركيز (هاستنكر) تعليماته إلى السير (ايفان ليبين) حاكم بومبي بأن يقوم بتحقيقاته باسرع ما يمكن عن حجم وطبيعة القوة المتطلبة لهذه المهمة ). سيظل هذا (العمل) للكاتب مسجلا كمرحلة اولى في رصيده الفني، مادام هو مستمرا في عطائه.
وفي روايته (عندما تستيقظ الاشجان) تتصرف الشخصيات بدوافع عاطفية بدائية، دون ان يتخلص الكاتب من طريقته في ضبط حركة الشخصية من الخارج ودون ان يهتم بمعاناتها من الداخل. فبدت كأنها مصنوعة من الشمع، غابت عنها الحياة.
فأحمد الشاب الذي ينهي دراسته الجامعة بالقاهرة، مع صديقه عبد العزيز .. هذا الصديق الذي لا تعرف عن أخباره شيئاً بعد قليل .. يعود (احمد) إلى الامارات ليجد أباه سعيداً قد رتب له وضعه الاجتماعي والمادي، وما على احمد سوى ان يصير مديراً .. ويتزوج، ويسكن (فيلا) .. وضمن هذا السياق نقف على تفاصيل كثيرة.
وأحمد في هذه الرواية، التي غرقت في التسجيلية، نموذج جيل من الشباب تفتح شبابهم على الوفرة المادية النفطية (خرج أحمد مع والده واستقل سيارة احمد المرسيدس وأنطلق احمد بالسيارة متجهاً إلى مقر الشركة .. وقفت سيارة احمد امام مقر الشركة ونزل منها مع والده، وتطلع إلى مبنى الشركة .. تقدم سعيد وتبعه أحمد إلى داخل الشركة واتجه إلى مكتب سعيد، جلس سعيد، على مكتبه الفخم وقال لأحمد : تفضل بالجلوس يا أبني العزيز. رمق احمد والده بنظرة ثم قال .. احمد يا أبني العزيز فقط .. هنا ابتسم سعيد لما سمعه من ابنه وأردف قائلاً : ومدير الشركة قريبا ..
- أصحيح يا أبي ما تقول؟ ساصبح انا مديرا عاما للشركة.
- ولم لا يابني .. انت أهل لها .. اننا فقط بانتظار نتيجة امتحانكم. ومع بعض التحفظ على البناء اللغوي والسرد .. أقول : ان هذا التجسيد الفني للنموذج في العمل الروائي خلا من المواقف، والمحطات الانتقائية التي تدفعنا إلى التأمل والاعتقاد، بان ما نقرأه عمل روائي وليس مسلسلا دراميا تلفزيونيا، نفذ بطريقة رديئة .. وقد اعتمد الكاتب اسلوب الكاميرا في رصد تفاصيل كثيرة، لا لزوم لذكرها.
وأحياناً يلتزم الكاتب حرفيا بنقل تفاصيل صغيرة يمكن الاستعاضة عنها بكلمات موحية، ولها دلالتها .. وتغني عن كثير من التفاصيل الواقعية .. ومن المؤكد أن هذا لا يأتي بسهولة، بل يحتاج الكاتب إلى مراس وصبر في القراءة، والكتابة لنقرأ (رن جرس المنبه قرب سرير أحمد معلناً ان الساعة قد شارفت على التاسعة صباحاً، تضايق احمد كثيرا لرنين الجرس، ومد يده وضغط على الزر فأخرسه، استمر احمد مستلقيا على سريره ولكن النوم قد انسحب من مقلتيه مما جعله يتبرم، وفي النهاية لم يجد بداً من ان ينهض من سريره ويتجه إلى الحمام ليزيل آثار النوم فأخذ حماما دافئاً وقد استعاد نشاطه) بمثل هذا الاطار يتم رسم حركة الشخصيات في الرواية. وفي نفس الوقت، وبقليل من التأمل سنكشف الجانب العبثي في حياة هذه الشخصيات من خلال هذا الاطار الفني، لان طريقة الحياة بهذا الشكل المتراخي، اللامنتمي، وغير المتجه إلى هدف انساني، هي طريقة عبثيه .. ومن هذا الجانب، ينجح الكاتب في تقديم نماذج اجتماعية، ليست غريبة عن الواقع المعاصر في الامارات، حيث ان الطفرة المادية المفاجئة، أضفت طابعاً عبثياً من نوع ما على الواقع.

* * *

في رواية (أحداث مدينة على الشاطئ) للحربي الشخصيات تظهر في مواقعها. وتكاد تحمل معها مبررات الخلق الروائي، وتتشكل في تنام، وتتصاعد تباعا مع أحداث الرواية لكنه ليس التشكل الذي يصل إلى نهايته.
(سليمان العبد الله) ابو حصة، نموذج محوري، في مدينة من صنع الكاتب (المريضة) هذه المدينة التي كادت ان تجسد شخصية فاعلة، لولا، ان الكاتب كان يغيب دورها من حين لآخر. أبو حصة يعيش الحالة الروائية ونقيضها، في اطار من المنطقية الفنية، والواقعية ايضا، وهو نبت متجذر في المريبضة).
( سليمان العبدالله – ابو حصة – الرجل القوي، الطويل القامة، الذي يحترمه اغلب الناس في هذه المدينة الصغيرة، ليس لانه يرافق الحاكم وينقل ما يدور من احاديث مجلسه إلى الاهالي عندما يزورونه في بيته وقت العصر، بل لأنه وكما يردد أهل (المريبضة)، اول من وجوده في المنطقة يوم تركوا الصحراء باتجاه الساحل، بل يقول كبار السن انه خرج من الأرض مثل النخلة، وهو في هذه المنطقة قبل مسجد
(الحاج داوود) نفسه، على ان كرمه الذي لا يقتصر على فتح باب بيته، أمام كل الناس، قريبهم وبعيدهم، بل كان يتعاطف معهم في الملمات وقت الحاجة والعوز).
وحين ينال (سليمان العبدالله) صفعة في البيت الحرام من مجلاد الحاكم، تصرفت الشخصية بصلابة مع هذه الحالة، والتي كانت الشرارة الاولى لموقف جديد، ومغاير لموقفها الاول من مجلاد، وحين تقرر هذه .. الشخصية ان تكون نموذجاً تغييرياً لهذا الواقع بجانب نماذج أخرى – حمد بن خميس وابنه عوض وحماد السلمي وابنه سعيد فانهم يحاولون جميعاً الأخذ بالسبب، ويبحثون عن وسيلة، ويقدمون تضحيات.
هنا، ومن هذه النقطة، يختلف سليمان العبدالله واصحابه، مع (خالد) و(اصحابه في رواية – دائماً يحدث في الليل – لغباش، فسليمان ينال الصفعة خارج (المريضة) ولكنه يعود إليها. وعودته وسيلة صحيحة في حين سنظل نبحث عن تفسيرات .. لرحيل خالد عن مدينته، كوسيلة لمقارعة واقع الظلم في المدينة .. يعود (سليمان العبدالله) بالرغم من ان رفيقه حمد خميس يذكره : (لكنك ضعيف، مالك قدره عليه).
- (ينصرني الله، هي موتة موتة، ان مت اليوم أو بكره، الذل يا بو عوض ما ينصبر عليه، لا والله ما ينصبر عليه).
غير ان الكاتب، ولسبب ما. سنناقشه فيما بعد، كان يضيق الخناق على حركة الشخصيات ولا يفرد لها مساحة زمنية كافية لتقول ما عندها، وتفعل ما تقدر عليه فظهرت الشخصيات – خاصة سليمان – وكأن قيدا ثقيلا يمسك بأعناقها، مع ان العمل الروائي، مساحة عظيمة لممارسة الحرية، هكذا يفترض، فالرواية غير الشعر، فالضغط الزمني، والفكري، والغموض في الحركة، تفقد الرواية رحابتها، وايقاعها، وعمقها الفني.
والمتأمل لحركة الشخصيات في (احداث مدينة على الشاطئ) بهذا الشكل الروائي المضغوط، يواجه أكثر من توقع وتساؤل :
1- القدرة والاتساع في أدوات الكاتب، ومقدار إحاطتها الفنية والفكرية، وعما إذا كانت فعلا قادرة على خلق شخصيات صاخبة، ومتشعبة، وعميقة .. وتتحرك في مجال مترام .. ام ان هذه (الادوات) بالكاد تصنع شخصيات في أطوار نموها الاولى، وليست بالحياة التي تدهش المتلقي.
2- اعتقدت في لحظة ما، وأنا أقرأ هذه الرواية، أن ثمة تاثيراً قد أسر الحربي من قراءته لرواية (مدن الملح) لعبد الرحمن منيف) ولم يتخلص منه وهو يكتب (أحداث مدينة على الشاطئ) حيث تتلاقى فضاءات كثيرة بين الرواتين، وملامح الشخصيات في رواية (الحربي)، تتشابه إلى حد، مع بعض شخصيات (مدن الملح)، حتى أن هذا الاعتقاد يكاد يدفعني إلى القول بان (أحداث مدينة على الشاطئ) كتبت بفعل شحنة تأثيرية من قراءة (مدن الملح).

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

العارض المكسيكي في الخليج العربي

”المكسيك بائسة, فهي بعيدة عن الله وقريبة من الولايات المتحدة“. هكذا لخص رئيس المكسيك بورفيريو دياز موري (١٨٣٠-١٩١٥) علاق...