”المكسيك بائسة, فهي بعيدة عن الله وقريبة من الولايات المتحدة“. هكذا لخص رئيس المكسيك بورفيريو دياز موري (١٨٣٠-١٩١٥) علاقة بلده مع جارتها. المكسيك ليست دولة صغيرة, بمساحة مليونين كيلومتر مربع هي الدولة ١٣ في العالم من حيث الجغرافيا, وبتعداد يبلغ ١٢٠ مليون نسمه هي تمثل الدولة ١١ عالمياً من حيث السكّان. والمكسيك كبيرة أمام جيرانها جنوباً: غواتيمالا وبيليز. لكن المكسيك دولة صغيرة إزاء جارتها الشمالية. وقد تترجم الصّغر بفقد ثلث مساحتها قبل قرن ونصف. وبعض
ولايات أمريكا التي نعرفها بأسماء تكساس ونيومكسيكو وكاليفورنيا كانت في زمن ما أراض مكسيكية.
ولايات أمريكا التي نعرفها بأسماء تكساس ونيومكسيكو وكاليفورنيا كانت في زمن ما أراض مكسيكية.
ليست المكسيك حالة شاذة, فكل الدول التي تتاخم دولاً أكبر منها تكابد العارض نفسه. ويمكن رصد ذلك في منطقة الخليج من واقع التجربة المعاشة لبعض دوله في العقود القليلة الماضية.
حازت الكويت على استقلالها في ١٩ يونيو ١٩٦١ ونالت العضوية في العديد من الهيئات الدولية, وعلى رأسها الأمم المتحدة كعضو كامل, لكن بعد ٦ أيام من نيل الاستقلال أعلن عبدالكريم قاسم, رئيس الوزراء العراقي, مطالبته بضم الكويت إلى العراق بادعاء أنها كانت تابعة لولاية البصرة في مرحلة الحكم العثماني. ودفع ذلك بريطانيا لإرسال قوة عسكرية رداً على المطالب, وقد حلت محلها بعد وقت قصير قوات عربية لضمان حدود الكويت. وقد استمرت الأزمة بين البلدين حتى سقوط حكم عبدالكريم قاسم في الثامن من فبراير ١٩٦٣.
في أبريل ١٩٦٩ سمحت الكويت لبعض وحدات الجيش العراقي للتمركز في أراضيها للدفاع عن ميناء أم قصر العراقي ضد التهديدات الإيرانية, لكن العراق لم يسحب قواته بعد زوال التهديدات, ووسّع سلاح الهندسة العراقي طرق الإمداد على أراضي الكويت رغم اعتراضات الأخيرة. وفي أثناء اللقاءات الثنائية بين الطرفين طالبت العراق على لسان صدام حسين, نائب الرئيس العراقي في ذلك الوقت, بالاستحواذ على جزيرتي وربة وبوبيان. رفضت الكويت الطلب وتوتّرت العلاقة بين البلدين إلى أن أدت في ٢٠ مارس ١٩٧٣ إلى احتلال العراق لنقطة الصامتة الحدودية وللتوغل لمسافة ٣ كيلومترات. نتج عن ذلك سقوط قتلى وجرحى من الجانبين. مع ذلك فقد نجح هجوم كويتي مضاد في استعادة الأراضي التي فقدتها.
في منتصف الثمانينات نجى أمير الكويت الشيخ جابر الأحمد الصباح من محاولة اغتيال أثناء توجّهه إلى مكتبه في قصر السّيف. وقد فسرت المحاولة على أنها انتقام من دعم الكويت الكبير للعراق في حربه مع إيران (١٩٨٠-١٩٨٨).
في ٢٥ يونيو ١٩٩٠ التقى الرئيس العراقي صدام حسين السفيرة الأمريكية إبريل غلسبي في خلفية توتّر بين العراق والكويت واتهامات ضد الأخيرة بأن سياستها النفطية ألحقت الضرر بمصالح العراق. وتذكر مصادر إعلامية أن السّفيرة الأمريكية أعلنت أن الولايات المتحدة ليس لها موقف إزاء أي صراع عربي-عربي. وتذكر مصادر أن اللقاء منح الرئيس العراقي الثقة بأن أي تدخل عسكري للعراق في الكويت لن يلقى ممانعة جادة من قبل الولايات المتحدة. وسواء كان للّقاء صلة أو لم يكن فقد العراق في الثاني من أغسطس ١٩٩٠ على غزو الكويت ونجح في احتلال كامل أراضيه في الرابع من الشهر نفسه, وبعد أسبوع من ذلك تم إعلان الكويت المحافظة العراقية رقم ١٩. لكن الولايات المتحدة قادت تحالفاً واسعاً شمل ٣٤ دولة نجح في إلحاق الهزيمة بالجيش العراقي وبتحرير الكويت في ٢٦ فبراير ١٩٩١.
واجهت البحرين مطالب من إيران تزعم أنها جزء من أراضيها في المحافل الدولية في ١٩٢٨ عبر مذكرة مقدمة إلى عصبة الأمم. وتكررت المطالب في ستينات القرن الماضي مع إعلان بريطانيا نيتها الانسحاب من الخليج ووضع ترتيبات لاستقلال البحرين وقطر ومشيخات ساحل عمان. لكن لقاء عقد في جدّه في ١٩٦٨ بين شاه إيران والملك فيصل فتح الطريق لحل سلمي للخلاف تبلور في ختامه بقيام الأمم المتحدة بتشكيل لجنة لتقصي الحقائق للتعرف على رغبات شعب البحرين فيما يتعلق بالمطالب الإيرانية أو الاستقلال. وقد وصل أعضاء اللجنة إلى البحرين في نهاية مارس ١٩٧٠ وأمضوا أكثر من أسبوعين التقوا أثناءها عدداً من الشخصيات البحرانية يمثلون أطيافاً مختلفة من فئات المجتمع. خلصت اللجنة إلى تأييد استقلال البحرين, واعتمد مجلس الأمن الدولي تقرير اللجنة, وبذلك تم تجاوز مطالب الضمّ الإيرانية بشكل سلمي, وأعلن حاكم البحرين في منتصف أغسطس ١٩٧٠ الاستقلال وتبع ذلك الانضمام إلى الأمم المتحدة كعضو إضافة لمنظماتها المختلفة. رغم ذلك فقد شهدت عقود الاستقلال فترات مختلفة من التوتر مع إيران إضافة لعدم الاستقرار الداخلي.
قبيل نيل استقلال مشيخات ساحل عمان في نهاية ١٩٧١ قامت إيران باحتلال ٣ جزر تابعة للشارقة (جزيرة أبوموسى) ورأس الخيمة (جزيرتي طنب الكبرى وطنب الصغرى). لكن ذلك لم يوقف إعلان استقلال المشيخات السبع ككيان فيدرالي تحت إسم دولة الإمارات العربية المتحدة.
نالت قطر الاستقلال أيضا في نهاية العام ١٩٧١ دون أي مشاكل تذكر, لكن توترات حدودية مع المملكة السعودية جعلت العلاقة فاترة بين البلدين لفترة طويلة. قامت قطر بانتهاج سياسة خارجية نشطة مدعومة بجهاز إعلامي متقدم قلّ نظيره في العالم العربي في حجم تأثيره على ملايين المواطنين العرب, لكن المحصلة بعد قرابة نصف قرن من الاستقلال رأيناها في الأشهر الستة الأخيرة إبان توتر العلاقات مع جيرانها في مجلس التعاون حيث تحوّلت قطر إلى كيان سياسي معزول خليجياً وضعيف إقليمياً ودولياً معرض للضغوط والتهديدات, ومن هنا يمكن فهم صفقات بالمليارات مع دول كالولايات المتحدة وفرنسا واستضافة قوات تركية في قواعد على أرضها, وهي إجراءات يفترض منها ضمان الوجود ورد المخاطر المقترنة بالخلافات مع الجيران والتي في جوهرها مرتبطة بالصغر.
من غرائب النظام الدولي أن كيانات صغيرة مثل المالديف, مالطا, غرينادا, وسيشل تبلغ مساحة كل منها ما بين ٣٠٠-٤٥٥ كم مربع تتمتع بوصف دول, مثلها مثل روسيا والولايات المتحدة والصين والتي تتراوح مساحاتها ما بين ١٧ مليون-٩.٥مليون كم مربع. وحين تتم المقارنة السكانية نواجه تباينا هائلا بين الكيانات الصغيرة سكانيا والكيانات الكبيرة.
يعود التسامح في إطلاق مسمى الدولة على الكيانات السياسية المتباينة إلى المعاهدات الدولية العديدة التي يمكن تحديد بدايتها باتفاقيات ويستفاليا (١٦٤٨) ومجلس فينا (١٨١٤-١٨١٥) ونهايتها بمواثيق الأمم المتحدة العديدة التي تكفل للأعضاء أمنهم في الساحة الدولية حتى وإن كانوا عاجزين عن القيام بحماية أنفسهم بأنفسهم.
نلاحظ أنه باستثناء مشيخات ساحل عمان فإن باقي حكام الخليج اختاروا بعد الاستقلال تطوير بلدانهم كدول ذات سيادة, ولم تغرهم مشاريع الاتحاد التي كانت مطروحة. فقد اقترح على الكويت قبل استقلالها بسنوات الدخول في مشروع اتحادي يضمها مع العراق والأردن, لكن الفكرة ماتت مبكرا مع انقلاب ١٩٥٨ في العراق. وحين بدأت مفاوضات الاتحاد التساعي في ١٩٦٨ الذي كان مطروحاً ليضم مشيخات الساحل إضافة لقطر والبحرين لم يغر المشروع الكويت للانضمام. حتى قطر والبحرين, بعد قبولهما المبدئي بالفكرة ودخولهما في المفاوضات التأسيسية, آثرتا الحذو في طريق الكويت كدول منفردة unitary states. اختيار التحول إلى دول مستقلة منفردة حمل في طياته البقاء ككيانات سياسية صغيرة تجاور قوى إقليمية أكبر منها بشكل كبير, واستلزم تلقائياً العيش مع المخاطر الإقليمية إلى مالا نهاية إيمانا بأن النظام الدولي سيكفل لها البقاء.
من يرى أن الصغر يمكن أن يكون ناجحاً يسوق تجارب سويسرا وأيسلنده وسنغافوره وإسرائيل. بشكل عام فإن الحالات الناجحة للصغر تمثل استثناءات قليلة العدد في مجموع الدول الصغيرة التي تواجه أزمات مزمنة. وحالة اسرائيل استثنائية لامتلاكها ميزات يصعب توفرها للكيانات الصغيرة: احتكار للأسلحة النووية في كامل منطقة الشرق الأوسط بالإضافة إلى ترسانة من العتاد التقليدي تضمن لها الأفضلية على جيرانها. لكن وبرغم كل هذا فإن إسرائيل خاضت حروباً عديدة منذ تأسيسها قبل ٧٠ عاما ولم تنعم بالاستقرار منذ نشوئها.
بشكل عام فإن الحالات الناجحة للصغر تمثل استثناءات قليلة العدد في مجموع الدول الصغيرة التي تواجه أزمات مزمنة. وضع الصّغر يدخل بعداً مهماً على مهام الدولة. فهناك حالة عجز حتمية تضطر الدولة الصغيرة إلى اللجوء لمساعدة الغير عند الأزمات- وهنا بيت القصيد. في هذه الحالات يكرّر الأمريكيون مَثَلهم أن ليس هناك غداء مجاني. ونتيجة هذا أنه من المتوقع والمقبول في آن معاً أنه يتعيّن على الكيان الصغير أن يدفع من سيادته ومن موارده وأن تتكيف قراراته المصيرية بحسب منظور من يقدّم الحماية.
من الملامح الرئيسة للسياسة في الخليج بعد الانسحاب البريطاني في نهاية الستينات هي عملية التحالف الاستراتيجي مع الولايات المتحدة. امتد هذا التحالف لعقود طويلة واختبرت فعاليته بنجاح كبير في جهود تحرير الكويت من الاحتلال. لكن مالا يجري الحديث عنه هو الكلفة الباهضة التي اقترنت بهذا التحالف.
يشير كارل شميت إلى عنصر رئيس في أنشطة أي نظام سياسي: أن يقوم بتحديد دقيق للأصدقاء والأعداء. ويسهل أن نرى أن الأنظمة الخليجية ارتكبت التحديد الخاطئ في علاقتها مع العراق, إذ منحت التأييد المالي والسياسي لنظام صدام حسين في حربه ضد إيران, وهو ما أكسبه قوة, لم تكن كافية ليحقق الانتصار على إيران, لكنها ساعدته ليهدد حلفاء الأمس, جيرانه جنوباً, والذي اكتمل بغزو الكويت.
هي أيضا منحت الولايات المتحدة, الحليف الرئيسي, حرية كاملة ليرسم السياسات التي يراها للمنطقة, ورهنت مصيرها لسياساته باستمرار. وقد أغمضت عينيها عن حقيقة أن هذا الحليف فشل بشكل تام في ايجاد حل سياسي للصراع العربي الإسرائيلي, بما في ذلك القضية الفلسطينية, وهو الفشل الذي بثّ اضطراباً دائماً في المنطقة العربية. كما أغمضت عينيها عن حقيقة أنه الذي تورط بشكل كبير بمنح القوة للجهادية الإسلامية إبان الغزو السوفياتي لأفغانستان والتي أنتجت نظام طالبان وتنظيم القاعدة.
مشكلة أخرى ورثتها دول الخليج, بسبب من تحالفها مع الولايات المتحدة, تتعلق بما حذر منه الرئيس الأمريكي أيزنهاور: التأثيرات الخطيرة المتولدة عن المركّب العسكري الصناعي في الولايات المتحدة الذي يقف وراء إنتاج الأسلحة والذي يشمل شركات كبرى ومراكز أكاديمية بحثية وامتدادات ذلك كله في البيروقراطية الفيدرالية. كان أيزنهاور يحذر أن تقود هذه الشراكة الحكومية والخاصة إلى مخاطر مثل دفع السياسة الخارجية الأمريكية إلى حروب لا مبرر حقيقي لها نابع من المصلحة العليا للدولة بل حروب لتسويق العتاد والذخيرة في مختلف أنواع الأسلحة.
وبرغم تحذيراته فإن تاريخ الولايات المتحدة طيلة سنوات الحرب الباردة والمرحلة التالية لها يحتوي على حملات عسكرية كثيرة كان لمنطقتنا نصيب غير قليل, ليست فقط حرب تحرير الكويت بل كذلك غزو العراق في ٢٠٠٣ تحت مزاعم وجود أسلحة دمار شامل, وقبيل ذلك غزو أفغانستان لمواجهة القاعدة وحلفائها. والاضطراب العميق في المنطقة العربية يعود بشكل مباشر للطريقة التي تمت بها إدارة الحروب المختلفة.
المتكرر والمألوف يوحي بأن هكذا هي طبيعة الأشياء. كل يوم تشرق الشمس من الشرق وتغرب في الغرب فتتحدد قوانين سرمدية عن الليل والنهار. ودولنا تمارس سياسات معينة لفترات طويلة فيستقر في ضميرنا أن هذه الممارسات هي من طبيعة الأشياء, سياسات تمليها الضرورة, وأنه حين ينتج عنها نتائج ضارة أو كوارث, فليس لنا أن نلوم أنفسنا لأن ذلك لا أكثر من أقدار غير مؤاتية أو مجرد سوء حظ.
ثقافتنا العربية, بمختلف أنواع الطيف الأيديولوجي, تنزع باستمرار نحو اليقين. نلجأ للدين ليعطينا الثبات والصلابة تحت أقدامنا. وحتى حين نعلمن معرفتنا السياسية عبر منظورات الفكر القومي والاشتراكي والليبرالي فإن السعي وراء اليقين دائما يحفزنا إلى القفز نحو أراض أكثر صلابة من ذي قبل غير مدركين أننا نسعى وراء الأوهام لأن الحركة تمثل طبيعة النشاط الإنساني. أن النشاط الاجتماعي والممارسة السياسية هي بالتعريف ليست سكونية أو راكدة, فهي أراض متحركة وأن علينا أن نحسن الاختيار كل يوم بما تقدمه الطبيعة ونشاط البشر الآخرين: بين أراض تعصف بها الزلازل والبراكين وأراض توحلها السيول وكثبان تحركها الأعاصير.
تلعب الأساطير دورا كبيرا في حياتنا كأفراد ولا يكاد إنسان يفلت من بعضها في مراحل من حياته, والحال نفسها مع المجتمعات والدول. فبإزاء الديباجة الجميلة في المواثيق الدولية التي تعمل على بث الطمأنينة في نفوس الموقعين عليها يقدم التاريخ وقائع كثيرة تكشف عن تجاهل حقوق الدول الأصغر. والنتيجة الواضحة هي أن الصغر خطير, ليس فقط في أنه يمكن أن يؤدي إلى تعديلات حدودية وتدخلات من الجيران الأكبر في الشؤون الداخلية وتنتج عنه اختراقات أمنية خطيرة (علاقة سوريا بلبنان ومسلسل الاغتيالات لشخصيات لبنانية). الصغر أيضا يمكن أن يؤدي إلى الإلحاق والضم الجزئي أو الكامل على طريقة اختفاء الكويت من الخارطة لأكثر من ستة أشهر.
حتى تحرير الكويت الذي قد يساور الناس اليوم أنه كان مضمون التحقق لم يكن كذلك. وبالنسبة للكثير من الكويتيين ساد شعور في الأسابيع الأولى من الاحتلال بأن بلدهم اختفى من الخارطة إلى الأبد. فقد نسجت عراق صدام حسين علاقات مميزة مع الأردن والسودان واليمن, وحاولت دون أن تنجح في ذلك استمالة مصر إلى جانبها. وترافق الاحتلال بخروج العديد من المظاهرات الشعبية المؤيدة للعراق في عدة دول عربية والتي نظرت لما حدث على أنه تحقيق لنوع من الوحدة العربية التي كان يدعو لها الرئيس جمال عبدالناصر في خمسينات وستينات القرن الماضي. وبعض المظاهرات لم تكن تترجم حماسها للغزو بل كانت تعارض أي مواجهة عسكرية ضد العراق تسبب الخراب له وتغلّب التفاوض الدبلوماسي لحل المشكلة.
وقد كان لمخاوف المملكة السعودية من حدوث اجتياح لأراضيها دور ليس بقليل في الجهود الهادفة لردع أي توسع جديد للعراق في الخليج وفي تحرير الكويت. واللحظة الحرجة في جهود مواجهة الاحتلال جاءت أثناء التصويت في مجلس الشيوخ الأمريكي على استخدام القوة العسكرية إذ تمت بموافقة ٥٢ عضواً ورفض ٤٧, وهو ليس بالفارق الكبير.
ومن الأمور التي أنجحت جهود تحرير الكويت أيضا كان تدهور أوضاع الاتحاد السوفياتي الذي لم يكن في مقدوره دعم العراق والذي بدأ بالانهيار إثر الانقلاب الفاشل في أغسطس ١٩٩١. لو لم تتضافر الظروف الإيجابية لربما كان للتاريخ مسار آخر.
وبدلاً من الروليت السياسي الذي يرافق الصّغر توفر للكويت والبحرين وقطر على مدى نصف قرن خيار إحياء الاتحاد التساعي أو تطوير مجلس التعاون ليكون كما كانت الآمال معقودة عليه في تأسيسه كياناً سياسياً واقتصادياً يلبي حاجات الأمان التي تحتاجها كل الكيانات الصغيرة وحاجات التنمية التي يسهل تحقيقها ضمن أسواق أكبر وشروط تبادل تجاري دولي أكثر عدلا ليست سهلة التحقيق للكيانات الصغيرة.
في زمن العولمة, هناك مخاطر إضافية عديدة ترافق الصغر, فهناك الأوبئة التي يسهل انتقالها وبسرعة بين البلدان, ويصادف هذا العام مرور مائة عام على انتشار الانفلونزا الاسبانية والتي يقدر ضحاياها ما بين ٢٠ إلى ١٠٠ مليون قتيل. وهناك مخاطر بيئية قد تؤدي لاختفاء العديد من الجزر والمدن الساحلية إضافة لانحسار الشواطئ في البلدان ذات الشواطئ الممتدة والمنخفضة نتيجة ارتفاع درجات الحرارة الناجم عن تعاظم انبعاثات ثاني أكسيد الكربون. وتتزايد مخاطر مرتبطة بالجريمة المنظمة التي أمست تتمتع بنفوذ كبير في بعض بلدان أمريكا اللاتينية الصغيرة إلى درجة السيطرة على جوانب عديدة من حياة الناس.... كثير من هذه الظواهر يمكن للكيانات الأكبر أن تؤثر فيها بشكل أكثر فعالية من قدرة الكيانات الأصغر.
من نافل القول أن مشاريع التوحد في كيانات أكبر هي دائما صعبة التحقيق. هناك تحديات ناشئة من أسباب عديدة منها سعي كل طرف لتعظيم وزنه النوعي داخل الكيان الأكبر بناء على اعتبارات جغرافية أو سكانية أو اقتصادية. والتحدي الأصعب يكمن ربما في بناء ثقة الكيانات السياسية الأصغر وضمان أنها لن تذوب في الكيان الأكبر وأن حقوقها الدستورية مصانة, وأن النظام الجديد يملك مرونة كافية ليتطور في داخله وينمو ككيان قادر على ابتكار حلول مشكلات كبرى تواجه كل دول العالم: خلق فرص عمل لأجيال شابة تعجز البنى الاقتصادية الحالية على تلبيتها. نجح انتاج النفط وأسعاره في العقود الماضية في إنجاز مستويات معيشية مرتفعة في كل دول الخليج, لكن مع تداعي موقع النفط في الاقتصاد العالمي فإن استمرار الرخاء الذي تتوقعه مجتمعاتنا لم يعد أمراً هين المنال.
تنويه: قدم البحث في نسخته الأولى إلى المنتدى التقدمي في مملكة البحرين في فبراير ٢٠١٨, وهناك اختلافات بين النسخة الأولى والبحث المنشور هنا أملتها الملاحظات التي تمخضت عن المناقشات التي تلت إلقاء موجز شفهي للبحث
المصادر:
حسن على الإبراهيم: الدول الصغيرة و النظام الدولي الكويت و الخليج, مؤسسة الابحاث العربية, بيروت, ١٩٨٢
أحمد ديين: الديمقراطية في الكويت, مسارها-واقعها-تحدياتها-آفاقها, دار قرطاس للنشر, الكويت, ٢٠٠٥
رياض نجيب الريس: صراع الواحات والنفط, هموم الخليج العربي بين 1968-1971, رياض الريس للكتب والنشر, بيروت ٢٠٠٤
عبدالنبي العكري: ذاكرة الوطن والمنفى, فراديس للنشر والتوزيع, البحرين, ٢٠١٥
Benjamin Constant: Political Writings, Cambridge University Press, Cambridge 1988
Carl Schmitt: The Concept of the Political, The University of Chicago Press, Chicago, 2007
Hans Sluga: Politics and the Search for the Common Good, Cambridge University Press, Cambridge, 2014
مصدر الخارطة المستخدمة: ويكيبيديا الموسوعة الحرة*
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق