في بلاد القتلة
كيف لك أن تكوّن أسرة في بلد يحكمه القتلة؟ لثلاثة عقود قام تيسير ونهاد برعاية ابنين وابنتين. وبرغم أن الابن الأصغر بلغ 22 عاماً إلا أنه بقي عاطلاً عن العمل، وربما لهذا السبب وجد عزاءه في التدين، فأطلق لحيته وصار يقضي ساعات طويلة في المسجد.
لو كان ابن أي منا، كنا سنطمئن لهذا التدين ليحفظه من الانحراف. فماذا بقي له ليفعله إلا أن ينتظر رحمة الله. فأهله حرمهم النظام الدولي من حقوق المواطنة بعد أن طردوا من فلسطين قبل ستة عقود. ومع أنه ولد في جدة بالمملكة العربية السعودية إلا أن أهله شدوا الرحال إلى لبنان في 1991 بعد ذلك الزلزال الذي فجره نظام قتلة آخر باحتلال الكويت وتوريط الكثيرين بالتبرير لهذا الاحتلال.
كيف يفعل رب أسرة فلسطيني في لبنان في السنوات الـ41 الماضية؟ فأنت ممنوع من العمل في أغلب الوظائف والمهن. وما يزيد العسر عسراً أنك في بلد حطمته حرب طويلة دفعت بأهله أنفسهم للهجرة. ماذا تفعل كأب؟ بالطبع أنت تجترح معجزة كل ساعة. كيف؟ ليس مهما. المهم أن الطاولة سيوضع عليها طعام كل يوم، وأقساط المدارس سترسل في وقتها. وفاتورة الدواء ستدفع للصيدلي. أنت أب وأم ناجحان تعملان في ظل دولة فاشلة يحكمها القتلة.
أين أخطأ تيسير ونهاد؟ ربما كان عليهما أن يمنعا ابنهما من إطلاق لحيته وإغراء القتلة بخطفه. ربما كان ذلك خطأهما الفادح. ربما. لكن كيف كان لهما أن يستشعرا خطر اللحية على ابنهما؟ كيف للوالدين أن يعرفا أن إطلاق اللحية، وهي سنة نبوية، سيقذف ابنهما في هاوية ليس لها قرار؟ كيف؟. لقد تم اختطاف ابنك ذا الـ22 عاماً ـ ابنك وليس ابنتك. فلنعترف! في أنظمة القتل هناك مساواة في الخطف. فلا يتم خطف الصغار وحسب، بل الكبار أيضاً، وليس الشابات فقط، بل الشبان أيضاً. نعم. هناك نوع من المساواة أيضاً في هذه الأنظمة.
في السابعة من صباح 16 يناير 2005 غادر أحمد بيته في الطابق الأول من بناية اسكندراني القريبة من جامعة بيروت العربية، بعد أن أرسل أحدهم في طلبه عبر إطلاق أبواق سيارته المتوقفة أمام المبنى. وتقول والدته أن أحمد طلب منها بعض المال ثم أخذ ألفي ليرة لبنانية (حوالى دولار واحد و33 سنتاً) وقال لها أنه سيغيب لساعات قليلة فحسب. فليكن. لقد خطف ابنك. والدولة الخاطفة لن تعيده إليك، وستكتفي بأن تعلن رسمياً أن ابنك بات مفقوداً بتاريخ 19 يناير. أو ستعلن أنه -ميت أمنياً- ماذا تفعل إلا أن يظلك الله بلطفه.
لكن انتظر! فهناك المزيد. فأنت ستعيش لتشاهد فلذة كبدك الذي تعرف أنه عاجز عن ذبح دجاجة، يعترف على شاشات التلفزيون بارتكابه جريمة قتل بشعة أودت بأرواح العشرات. ها أنت الآن تفقد سمعتك وسمعة أهلك في دقائق بعد جهود عشرات السنين حافظت فيها على كل شيء برغم ظروف العيش المستحيلة.
في 14 فبراير كانت الأسرة تشاهد التلفزيون عندما بثت قناة الجزيرة شريطاً مسجلاً يعلن فيه ابنها أحمد مسؤوليته عن قتل الرئيس رفيق الحريري باسم جماعة النصرة والجهاد في بلاد الشام. خرجت الأسرة، تاركة أبواب المنزل مشرعة والتلفزيون مفتوحاً، خرجت إلى الطرقات هائمة على وجهها من وقع الصدمة.
بعد أن عادوا في الثامنة والنصف مساء تم اعتقال الأب والأم والشقيقة الصغرى (21 سنة). في اليوم التالي أطلق سراح الشقيقة وبقي الوالدان محجوزين لعشرة أيام (بشكل غير شرعي حسب تقرير الأمم المتحدة). اللواء جميل السيد، كما يظهر تقرير مليس، كان هو من أرسل شريط القاتل المزعوم لوسائل الإعلام، ورغم ذلك وصف الولد الضحية بهزء يثير القشعريرة: «إن قاتل الحريري إما حمار وإما اينشتاين».
يجب ألا تغيب الصورة عنا ونحن نحلل قول السيد اليوم بعد صدور تقرير الأمم المتحدة. ترى ماذا كان يدور في خلده وهو يطلق هذا التصريح؟ هل كان يتباهى بوصف نفسه كأينشتاين وبوصف الفتى الضحية بأنه حمار؟ ربما. والأغرب من الجرأة في التحدث وإطلاق النعوت أنها صدرت من شخص يعرف كل شيء، لكنه، وكأن الخطف وتلفيق الاتهام لا يكفيان، كان يدير أيضاً عملية التحقيق مع الأسرة البائسة، التحقيق ذاته الذي أدى لموت الأب نتيجة استخدام أساليب غير إنسانية أدت إلى وفاته مباشرة (بحسب اتهام الابن الأكبر)، أو بسبب الكمد والمهانة التي استشعرهما بسبب التحقيق.
توفي تيسير أبو عدس في السابع من مارس، بعد ثلاثة أسابيع من ظهور ابنه على التلفزيون، وأفاد التقرير الطبي الصادر عن مستشفى الساحل أن تيسير أحضر إلى قسم الطوارئ في الرابعة وعشر دقائق بعد الظهر لإصابته بتوقف في عمل القلب والتنفس وتوفي في الخامسة والربع بعد الظهر. وقد تساءل الابن الأكبر: «كيف مات والدي؟ هو لا يعاني من مرض القلب كما ذكروا, ولم يدخل أي مستشفى في حياته. لقد توفي والدي في ظروف غامضة».
على الأقل قد يبعث العزاء في نفسك كأب أن تشارك ولدك الغموض في طريقة الموت. شهود لجنة الأمم المتحدة قدموا إفادات تدعو للتشاؤم حول مصير الشاب، منها أن شريط الفيديو سجل تحت التهديد بمسدس، وبأن أحد قادة المخابرات أجبر الشاب على تسجيل الشريط قبل 15 يوماً من الجريمة في دمشق، وأنه قتل بعد ذلك، وأن جثته وضعت في عربة تحتوي على القنبلة وفجرت في مسرح الجريمة.
صديقي الصامت
اقترنت البطولات عند الأمم بالقتال. من الساموراي الياباني إلى فرسان القرون الوسطى في أوروبا مروراً بمحاربينا العرب في العصور الجاهلية والإسلامية. لكن هناك أيضاً أبطال حقيقيون لا يقلون عنهم شجاعة يعيشون بين ظهرانينا ويجترحون المعجزات كل يوم, ليس بقعقعة السلاح ..
قبل بضعة أيام رحل صديقي أبو لينا عن عالمنا. واتته السكتة القلبية وهو يستحم تحت رشاش الماء في بيته في مدينة كييف, عاصمة أوكرانيا. كان مصاباً بضغط الدم, ذلك العارض الذي يسميه الأطباء القاتل الصامت لأنه لا يفصح عن نواياه بأعراض مرضية مقعدة, لكنه يكتفي بالتسلل إلى حياتنا ببطء وهدوء ثم في لحظة عابرة يرسل ضربته القاضية.
التقيته آخر مرة قبل شهرين حين جاء يزور حفيدته الوليدة في دبي. وقد كان الشيخ الذي يطرق السبعين يتحرك بعنفوان رجل في نصف عمره. قد يلام أبو لينا على رفضه تناول أدوية الضغط، وهو في الحقيقة كان يرفض تناول أي دواء ويكتفي حين تشتد عليه الحال بارتشاف شراب الأعشاب والزهور. لم يكن ينكر دور الأدوية في العلاج لكنه كان يبرر رفضه لها باتهامها بأنها مقابل إشفائها عضواً تعطب أعضاء أخرى. لهذا السبب رفض أبو لينا طيلة حياته الأدوية. هل كان مخطئاً في خصومته للطب الحديث؟ ربما, ولعله لو استخدمها لما توفي بسبب ضغط الدم.
لكن المشكلة أنه لو استخدمها فإنها كانت في الغالب ستعجل بوفاته قبل ذلك بسنوات. فالرجل بلغ 68 سنة حين قضى نحبه, ولعله ما كان يصل هذا العمر لو لم يتجنب الأدوية. على أن شجاعة الراحل لا تتمثل في مواجهة علل الجسد بعزيمته وبالماء القراح وبصومه الطويل، لأسبوعين دون طعام. شجاعته تمثلت أنه كسر الصمت المحكم الذي فرضته عليه إعاقة الصمم والبكم لسبعة عقود دون موسيقى ودون صوت إنساني يصل مسامعه، وكذلك دون أن يمارس ملكة التحدث والتواصل بالأصوات. استعاض عن كل ذلك بإشارات اليد وإيماءات الرأس.
تقبّل أبو لينا صمته المطبق وعجزه عن الكلام بلسانه بشجاعة ولم يسمح لإعاقته أن تحطمه فعاش حياة غير منقوصة. لعب في طفولته ككل الأطفال السعداء، وشق طريقه التعليمي باقتدار حتى أنهى دراسته الجامعية وتخرج كمهندس ميكانيكي، وانخرط في مهنته لأربعين عاماً في مصانع لإنتاج الآلات.
منذ الطفولة انضم أبو لينا لآخرين كانوا يعانون من العاهة نفسها وأنشأوا لأنفسهم شبكة من العلاقات والصداقات، وعبر الشبكة تمكنوا من أن يمارسوا هوايات مشتركة ورياضات بدنية ورحلات وزيارات ميدانية لمواقع بعيدة عن مدينتهم. منذ صغره برز أبو لينا كلاعب شطرنج وأسس فريقاً لكرة القدم تولى قيادته. وفي ضمن هذه الشبكة التقى أبولينا بشريكة حياته والتي أنجبت ابنه وابنته. لحسن الطالع لم يرث الأبناء إعاقة الأبوين، لكنهما مع ذلك تعلّما لغة الإشارات، وعبر هذه اللغة نجح الوالدان في تنشأة ابنهم وابنتهم أحسن تنشأة. وهنا ربما كان أصعب شيء قام به الراحل: بناء جسور التواصل بينه وبينهما دون أن يتلفظ بكلمة واحدة. ومن يدري؟ لعل سر نجاحه يكمن في هذه الحقيقة البسيطة: أن ابنك وابنتك لا يتذكران يوماً قمت فيه بزجرهما. أن أقسى ما تعرضا له بسبب سلوك طائش هو أن تعابير وجهك لم تكن سعيدة وأنك عجزت عن إخفاء خيبة أملك فيهما.
عديدون بيننا يواجهون إعاقات مختلفة، لكن أكثرهم تسحقهم مجتمعاتنا من خلال اللامبالاة، والمأساوي في الأمر أننا حبيسو تلك النظرة المضللة التي ترى في المعاقين لا أكثر من عبء ثقيل معنوي ومادي نفضل أن نشيح النظر عنه بعيداً. وعبر هذا الموقف نحن لا نفاقم معاناتهم وحسب بل نخسر أفراداً يمدوننا بكل القيم العظيمة التي تسمو بأرواحنا.
طيور دون جوازات ..
وامرأة عكس التيار
وامرأة عكس التيار
أنجبت مصر أعداداً لا تحصى من المفكرين والمبدعين الذين شكلوا فكرنا وذوقنا في الموسيقى والسينما والمسرح. لكن مصر ظلمت أيضاً أعداداً كبيرة من العباقرة الذين تم إقصاؤهم.
لا أزال أستحضر لقائي الأخير بأبوسيف يوسف، ذلك المفكر الذي رحل ورحلت معه رؤاه لوضعنا العربي المستعصي على الحل كما هو مستعصٍ على الفهم. على الصعيد الشخصي كان أبوسيف يواجه مآسيه الشخصية بعزة نفس لا مثيل لها: بصره كان يضعف، وهو الذي صرف كل حياته بين الكتب عليه الآن أن يحرم من رفقتها. ومع بصره المتلاشي كانت نبضات قلبه تتباطأ.
في شقته بحي شبرا بالقاهرة كان يحلل الوضع العربي ولا يرى فيه إلا معبراً إلى مستقبل باهر يعوّض على شعوبنا التي عانت أكثر مما ينبغي البؤس والاضطهاد والإهانة. كيف يا أبوسيف؟ كان يرى في الأجيال الجديدة قوة تستعد للانطلاق برغم كل الظروف. وكان يرى أن أوروبا وأمريكا اكتشفتا أن رخاءهما في الزمن الراهن لم يعد، كما كان في الماضي، مرهوناً باستمرار البؤس عندنا، بل إن سوء أحوال العرب والأفارقة يهدد أمنهما.
حدثني أبوسيف كيف أن الطيور المهاجرة بالأمراض لا تملك جوازات سفر، وأن نجاح الشمال في التخلص من الجريمة لا يتحقق إلا بضمان العيش الكريم لأهل الجنوب في أفغانستان وكولومبيا.
رحل أبوسيف يوسف وخسرنا برحيله مفكراً أصيلاً. وحين أرى مكتبتنا العربية لا يقنعني ما يقوله الكثيرون إنه لا توجد لدينا كتب كثيرة. على العكس، المشكلة أن هناك الكثير من الكتب التي تضيع وقتنا وتفسد عقولنا. لكن القيّمين على ميدان النشر في مصر ولبنان سلّطوا علينا ضعاف العقول ليحشوا عقولنا بالتعصب وضعف التفكير وتجاهلوا أشخاصاً مثل أبوسيف يوسف.
حسين طلعت لم يكن صاحب قلم برغم ثقافته الكبيرة. حسين طلعت كان مهندساً زراعياً قضى حياته يعمل في مزرعته بمنطقة المنصورية في شمال القاهرة، واستطاع أن يقتطع لنفسه وأسرته أسباب الحياة الكريمة. لكن مأساته لم تكن أقل من مأساة أبوسيف يوسف. عاش الإثنان في بلد تنكّر لهما وأقصاهما عن الحياة العامة. كانا يحملان رؤى كبيرة لإصلاح أحوال بلدهما، لكن أنظمة الحكم المتتالية لم تفتح لهما إلا باب السجن حين عبرا عن آرائهما، وبعد السجن النبذ والإقصاء.
مي غصوب، التي تمر هذا الأسبوع ذكرى رحيلها الأولى، عانت أيضاً الإقصاء. لكنه لم يكن إقصاء دولة لمواطنيها، بل إقصاء مجتمع لأفراد لا يوافقونه على ضلاله. في نهاية السبعينيات هربت مي من الحرب الأهلية التي اشتعلت في بلدها لبنان بعد أن أصيبت بشظية أفقدتها إحدى عينيها. رحلت مي إلى لندن وأقامت فيها، مع رفاق لها، دار نشر عظيمة، وكانت تقتطع الوقت لتكتب ولتمارس فن النحت.
المدهش في مي غصوب أمران نادران: الأول أنها استوعبت درساً في طفولتها. ففي بلد تحكمه الطائفية تشربت مي بأخلاق التسامح بمواجهة ثقافة الانتقام والثأر. والأمر الآخر هو مفهومها السياسي. ففي السبعينيات والثمانينيات سبحت مي بعكس التيار الذي كنا نسبح فيه جميعاً. ومن دار نشرها اللندنية شاغبت على لعبة النشر العربي ومكّنتنا من التعرف لأول مرة على الأفكار التي رأتْ فيها محاولة للدفاع عن حقنا في وجه القوى التي كانت تحاول أن تسحقنا تحت دعاوى القومية والعروبة، لنصبح عبيداً لدول شمولية لا تطيق أن يفكر أحد أو يتنفس إلا بإذنها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق