الثلاثاء، يناير 14، 2014

بولانيو

اكتشاف كالقنبلة. قرأت قبل عامين عرضاً لرواية روبرتو بولانيو "٢٦٦٦" في النيويورك تايمز بمناسبة ترجمتها للانكليزية. وكنت أترقب أن تصدر ترجمة لها للعربية لكن الانتظار طال ونتيجة ذلك تأخر الاكتشاف.
كان هناك هاجس يراودني باستمرار عما سيؤول إليه حال الرواية بعد أن يتوقف ماركيز عن الكتابة. وهو متوقف لسنوات الآن بسبب المرض. وجَهني النقاد إلى لوسا وفوينتس. لكن قراءتهما زادت من هواجسي, أننا بصدد قفر إبداعي مقبل لا نعرف متى يتوقف.
الفضل الكبير لدار التنوير السورية في إجلاء الهواجس. فقد أهدى القائمون على هذه الدار للقراء العرب وبرغم مآسي الثورة السورية والفوضى والاضطراب الأمني ترجمتين لروبرتو بولانيو. التعويذة وليل تشيلي. حصلت على الأخيرة قبل أسبوعين في معرض بيروت للكتاب وأنهيتها سريعاً بسبب كتابتها بشكل يجعلها قريبة للأدب البوليسي في سردها برغم انتمائها للأدب الرفيع.



 اكتشفت أن هذا الأديب المتمرد على أنماط الأدب السابقة له, تقني ماهر ينسج روائعه على هواه هو وليس على إيقاع سبقه إليه غيره. لكن فلأستدرك: بولانيو برغم تمرده الشخصي وأصالته متجذر في التقاليد الروائية العالمية واللاتينية. وهو يضيف لمن سبقه حتى حينما يسخر ويهدم الخرائب التي يجدها في الطريق. أسلوبه واضح: شاعر يكتب الرواية, أو روائي ينظم الشعر. المأساة أن يرحل قبل عشر سنوات وهو في الخمسين وترحل معه كل الأعمال التي كان يمكن لها أن تولد من قلمه.
في ليل تشيلي يكتب الروائي اليساري رواية بطلها يميني, قسيس يهوى النقد الأدبي, أغلب الشخصيات تنتمي للتيار نفسه ويتربع على قمة المجموعة الجنرال بينوشيه وباقي جنرالات الانقلاب على نظام اللندي اليساري. لكن لن تجد في الكتاب كله كلمة واحدة تدين اليمين ولا شعاراً ثوريا مضاداً. بولانيو يصوغ أدباً وليس بياناً سياسياً ولا حتى إدانة تاريخية. هو يتابع حركة الأشخاص في أحاديثهم وانتقالاتهم ويرصد الحلول التي يضعونها لعلاج المشكلات. في متابعته لهم يتمكن بولانيو من مساعدتنا في إدراك حماقاتنا الإنسانية وفي الضحك عليها وفي أهمية ألا نأخذ بكثير من الجدية الأوهام التي نخترعها عن أنفسنا. في هذه الرواية يفاجئنا بينوشيه بامتعاضه من عدم اعتبار الناس له كاتباً مهما, وينقلب القساوسة الداعون لحب الكائنات إلى صيادي حمائم باستخدام الصقور. يلطخون أرديتهم الدينية بدماء الحمام خوفاً من روثها.
في روايته " المحققون الوحشيون" (لم تترجم بعد للغة العربية) يعيد بولانيو كتابة رواية دون كيخوته في سياق القرن الواحد والعشرين. تقاليد الديمقراطية ترقي سانشو بانزا (هنا تحت اسم يوليسس ليما) من رتبة التابع إلى رتبة الرفيق الند لمن يتقمص دور كيخوته (أرتورو بيلانو). تتواصل تقاليد الفروسية حيث يهب الاثنان لانقاذ الآنسة المحترفة لمهنة البغاء من سطوة قوادها الفظ.
لكن في الرواية هناك أكثر من مجرد التحية لسرفانتس, رائد الرواية الحديثة.
يبتكر بولانيو في هذا العمل الطويل مجموعة من الأساليب الجديدة في السرد القصصي.  عدد هائل من الشخصيات (تربو على ٥٠ شخصية) تدفع بالعمل ليرافق الأعمال الطويلة في الفن الروائي باقتدار مدهش: الحرب والسلام, موبي ديك, البحث عن الزمن الضائع, مائة عام من العزلة ...
وراء اللغة الفظة للعديد من الشخصيات, والمشاهد الصادمة الجنسية والعنيفة يكمن سرد بالغ الرقة وتوصيف لنماذج إنسانية سامية في نبلها. فن بولانيو طموح إلى أكثر من الامتاع الفني. فهو يحاول أن يقدم لنا عدسة ترينا أشياء لم تمكننا أبصارنا سابقا من الانتباه لها.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

العارض المكسيكي في الخليج العربي

”المكسيك بائسة, فهي بعيدة عن الله وقريبة من الولايات المتحدة“. هكذا لخص رئيس المكسيك بورفيريو دياز موري (١٨٣٠-١٩١٥) علاق...